المنشورات

الشيخ الخضري

تحول الكتاب إلى كتاب، ورجع المفكر إلى فكرة، وأصبح من كان يدارس الناس فإذا هو درس يذكر أو ينسى، وتناول التاريخ عالمًا، من علمائه فجعله نبأ من أنبائه، وكان يبنيه فوضعه في بنائه، وقيل: مات الشيخ الخضري!
آه لو يرجع إنسان واحد من طريق الموت التي أولها هذه النقطة الصغيرة المسماة بالكرة الأرضية، وآخرها حيث تجد كلمة: "الآخرة" بلا معنى لا محدود ولا مظنون! وآه لو استطعنا أن نتكلم عن الميت كأنه حي بيننا، ونحن كثيرًا ما نتكلم عن الحي كأنه مات في زمن! إني لأكتب هذه الكلمات وكأني أنظر إلى وجه أبي -رحمه الله- وأشهد ذلك السمت العجيب، وذلك الوقار الذي يغمر النفس هيبة وجلالًا، وأستروح ذلك الحب الذي هو أحد الطرق الثلاث المنتهية من الأرض إلى السماء، ومن المخلوق إلى الخلق، والمبتدئة من السماء إلى الأرض ومن الخالق إلى المخلوق: طريق الأم، وطريق الأب، وطريق الإنسانية؛ أكتب وكأن يدًا من وراء المادة تمسح على قلبي فأجد ثقلة وفترة، وأستشعر حنينًا وشوقًا، وأحس هذا القلب ينازعني إلى قوم ذهبوا بلا رجعة، وفارقوا بلا وداع، وغابوا عنًا بلا خبر؛ دخلوا إلى أنفسنا ولا تحويهم، وخرجوا منها ولا تخلو منهم؛ فما دخلوا ولا خرجوا، وهذه هي الحيرة التي يتركها الميت العزيز للحي المتفجع كيما يعرف بأمواته ما هو الموت!
كنا منذ بضع وثلاثين سنة في مدينة المنصورة، وكان أبي يومئذ كبير قضاة الشرع في ذلك الإقليم، فإني لألعب ذات يوم في بهو دارنا إذ طرق الباب، فذهبت أفتح فإذا أنا بشيخ لم يبلغ سن العمامة*، ولم أميز من هيئته أهو طالب علم أو هو عالم، فكان حدثًا لكنه يتسم بسمة الجد؛ ورأيته لا تموج به الجبة كالعلماء، غير أنها لا تمجه كالطلبة؛ وكان في يده مجلد ضخم لو نطق لقال له: دعني لمن هو أسن منك! فما قدرته يزن عشرين مجلدًا من مثله، ونظر إلي نظرة كأني لا أزال أراها في عينه إلى الساعة، فسلمت عليه فقال: أين الشيخ؟ يعني -الوالد- قلت: خرج آنفًا؛ قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وقل له جاء به الخضري.
ثم أغلقت الباب وانتحيت جانبًا وفتحت المجلد، فإذا هو جزء من التفسير الكبير للفخر الرازي، كان قد استعاره من مكتبتنا؛ وعرفت الشيخ من يومئذ، وكان أستاذًا للعربية في مدرسة الصنائع، يضع كتاب النحو والصرف مع المطرقة والمنشار والقدوم، فيذهب شيء في شيء، وكأنه لا يعلم شيئًا؛ وقلما كنا نذكره في مدرستنا إذ كان لنا شيخ فحل ثقة من رجال الأزهر، غير أن الخضري كان له موضع في كل مجلس، وكان يداخل قومًا من الخاصة يعنون بالمسائل الإسلامية وفلسفتها وتقريبها من العامة والدهماء، وبإشارة من بعض هؤلاء وضع أول كتبه: "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين"، ويكاد هذا الاسم يدل على وزن الأستاذ في أول عهده، وأنه لا يزال وراء السجعة الآتية من القرون الأخيرة لم يمض على وجه ولم يعرف بمذهب.
إن الذي يريد أن يقول قولًا صحيحًا في هذا الفقيه العالم المؤرخ الأديب المربي، يجب أن يرجع بتياره إلى منبعه مبلغ انبعاثه وقوة جريته ومد عبابه؛ فما كان الخضري شيئًا قبل أن يتعلق بمدار ذلك النجم الإنساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الأرض وسمى في أسمائها "محمد عبده"، لقد أخرجته دار العلوم كما أخرجت الكثيرين؛ ولكن دار علومه الكبرى كانت أخلاق الأستاذ الإمام وشمائله وآراءه وبلاغته وهمة نفسه. ألا أنه لا بد من رجل واحد يكون هو الواحد الذي يبدأ منه العدد في كل عصر، وأنت فكيف تأملت الخضري فاعلم أنك بإزاء معنى من معاني الشيخ محمد عبده، على فرق ما بين النفسين، بل أنت من الخضري كأنك ترى الشيخ ساريًا في مظهر من مظاهر الزمن.
كان يحضر دروس الشيخ، ويختلف إلى ناديه، ويناقله بعض الرأي، ويعارض معه بعض الكتب التي كان يرجع إلى الشيخ في تصحيحها أو الإشراف على طبعها، فنفذ الشيخ إلى نفسه ووجد السبيل إلى الاستقرار فيها، فهو من بعد حريص على وقته، مجد في عمله، دائب على طريقه، آخذًا بالأخلاق الفاضلة، مصلح مرب غيور، وكل ذلك في سمت وهيبة، وجزالة رأي، وشرف همة، وإخلاص حق الإخلاص؛ وما أرى فوضى عصرنا هذا وانحطاطه وإسفافه وسخافة قولهم: جديد وقديم، وجريء ورجعي، وحر وجامد -إلا من خلاء العصر وفراغه من النفس الكبيرة، وحاجته إلى إمام عظيم؛ ومتى أصبحنا نضرب في دائرة لا مركز لها، فهي المربع وهي المستطيل وهي كل شكل إلا أن تكون الدائرة؛ والذين رأوا طاغور الشاعر الهندي المتصوف حين نزل بمصر، ورأوا سحره وتحويله كل جديد مدة أيام إلى قديم، وإخراسه هذه الألسنة عن نقده ومعارضته، وعن معاندة الحق طيشًا ونزقًا وضلالًا وتجديدًا ... يستطيعون أن يدركوا ما أومأنا إليه، ويتبينوا السر فيما نحن فيه، ويتمثلوا ما كان للشيخ محمد عبده في عصره، بل في خلق عصره.
وانتهى الخضري إلى مدرسة القضاء الشرعي، فألف كتابه في الأصول، اختصر فيه وهذب وقارب، فهو كتاب في هذا العلم لا كتاب هذا العلم، وأساتذة الأصول قوم آخرون لو أنت منهم مثل الشيخ الرافعي الكبير، لرأيت البحر الذي يذهب في ساحله نصف طول الأرض، وقد بعث الخضري على ذلك أن جماعة يومئذ كان منها صديقنا المرحوم حفني ناصف، والشيخ المهدي، وغيرهما، اجتمعوا على إبداع نهضة في التأليف، فذهب ثلاثة منهم بحصة الأدب، وفرغ الخضري للأصول؛ أخبرني بذلك حنفي بك -رحمه الله- ثم لما اختار القائمون على الجامعة المصرية القديمة صديقنا العلامة المؤرخ جورجي زيدان لدرس التاريخ الإسلامي فيها. طار الخبر في الأمة بأنهم اختاروا القنبلة.. وشعر الناس بمعنى الهدم قبل أن يتهدم شيء، فاضطرت الجامعة إلى أن تنحيه، وعهدت في الدرس إلى الأستاذ الخضري، فألقى دروسه التي جمعها في كتابه "تاريخ الأمم الإسلامية". وقال في مقدمة هذا الكتاب: "أرجو أن أكون قد وفقت لتذليل صعوبة كبرى. وهي صعوبة استفادة التاريخ العربي من كتبه"؛ نقول: وعلى أن الشيخ أحسن في كتابه، وجاء بمادة غزيرة من فكره ورأيه، وبسط واختصر، وباعد وقرب، فإن كلمته هذه إما أن تكون أكبر من التاريخ أو أكبر من كتابه.
وردَّ في السنة الماضية على كتاب "الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، وكان رده خطابًا أراد أن يحاضر به طلبة الجامعة؛ لأنه أستاذ أستاذهم؛ فكأنه أراد جعل أستاذهم هذا تلميذًا معهم، وأبت عليه الجامعة ما أراد، ولعلها فطنت إلى هذا الغرض؛ ولما علم أني شرعت في طبع ردي على الدكتور طه1، كلمني في استلحاق مقاله وجعله ذيلًا في الكتاب، وقدرناه يومئذ في نحو خمسين صفحة أو دونها، وقد سألته أن ينفي منه ما كان في مقادير الرصاص، ويقتصر على ما هو في وزن القنابل، فقال: "كله قنابل"!. ثم اتسع كتابي وجاوز مقداره إلى الضعف، فوسع هو رده وزاد فيه وطبعه في قريب من ضعفه على حدة.
دع كتابه المشهور "مهذب الأغاني"، فهذا لا يقال: إن الشيخ ألفه، بل ألفته خمس عشرة سنة؛ وأظن كل ذلك لا يذكر في جنب الكتاب الذي كان يعمل فيه أخيرًا، وهو كتاب "الأدب المصري"، أخبرني أنه في جزأين ودعاني إلى داره لأرى "المكتبة الخضرية"؛ ولأطلع على هذا الكتاب، فوعدته ولم يقدر لي؛ وقد حدثني أنه معنيٌّ أشد العناية باستجماع الفروق التي يمتاز بها الأدب المصري عن الأدب الحجازي والشامي والعراقي والأندلسي، وأنه أصاب من ذلك أشياء متميزة منذ الدولة الطولونية، يحق لمصر أن تقول فيها: هذا أدبي؛ وكان يكتم خبر هذا الكتاب، حتى أن صديقنا الأستاذ حافظ بك عوض صاحب جريدة "كوكب الشرق"، اقترح عليه أن يكتب فصلًا في الشعراء المصريين وأدبهم يعقده لكتاب حفلة تكريم شوقي بك؛ ثم لقيه بعد ذلك فقال له الشيخ: إن البحث سائر على أحسن وجوهه!
كان الخضري يفرح للقائي ويهش لي، وكنت أتبين في وجهه أشعة روحه الصافية، ولعله كان يرى بي في نفسه ذلك الشيخ الذي أعطاني المجلد، كما كنت أرى به في نفس ذلك التلميذ الذي أخذ المجلد منه! على أن مرجع ذلك في الحق إلى سعة صدره، وفسحة رأيه، وبسطة ذرعه، وسموِّ أدبه وإنصافه؛ فلا يحقد ولا يحسد، ولا يتجاوز قدره، ولا ينزل بأحد عن قدره، ولا يدعي ما لا يحسن؛ وقد عرف قراء "المقتطف" مثلًا من أخلاقه هذه أو أكثرها حتى انتقده صديقنا الأستاذ عبد الرحيم بن محمود، وتناول الجزء الأول من كتابه "مهذب الأغاني" وراح يتقلقل له كجلمود صخر.. فوسعه الشيخ وعني به ورد عليه في "المقتطف"، ونعته بالأستاذ الجهبذ وانتصف منه، وأنصفه معًا. ولقد اقترحت عليه مرة أن يضع كتابًا في حكمة التشريع الإسلامي وفلسفته، فقال لي: "مش قده" يعني أن العمل أكبر منه، ولكن هذا نبهه إلى وضع كتابه في "تاريخ التشريع الإسلامي.
ولما أصدرت الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" في سنة 1911، لم أهده إلى الشيخ، فاشتراه وقرأه، ثم لقيته وسألته رأيه فيه، فقال: "جدًّا كويس" فكان تقديم "جدًّا" تقريظًا، و"كويس" تقريظًا آخر؛ وهو يقول هذا على حين كان بعض إخوانه الشيوخ يكاد يموت غمًّا بهذا الكتاب وما كتب عنه، وعلى حين كلمني بعضهم مرتين في ترك هذا العمل ونفض يدي منه؛ لأنه -زعم- عمل شاقٌّ بلا فائدة..
وقد زرت الأستاذ الخضري في وزارة المعارف في السنة الماضية، فبعد أن جلست إلى جانبه نهض مرة ثانية وجعل يثبتني بقوة في الكرسي، كأنه لم يطمئن بعد إلى أني جلست، ثم فاض بكلام كثير، فكان فيما قاله: "أنا الآن أعيش في غير زمني"، وكأنما كان ينعي إلي نفسه بهذه الكلمة من حيث لا يدري ولا أدري، وقال لي: إنه يجلس إلى مكتبة في كل يوم ست ساعات، يقرأ ويؤلف أو ينسخ؛ لأن كل كتبه المخطوطة هو ناقلها وناسخها ومصححها، وأنه يتلو كل يوم أربعة أجزاء من القرآن الكريم. قال: ولا يعتريه البرد ولا مرض من أمراضه، لما اعتاد من رياضة صدره بهذه التلاوة، وقال: إن كل ما هو فيه إنما هو من بركة القرآن.
ولنمسك عند هذا الحد؛ فإن للذكرى غمزًا على القلب، وبالجملة فقد كان -رحمه الله- عالمًا كالكُتَّاب، وكاتبًا كالعلماء؛ فهو من هؤلاء وأولئك يلف الطبقتين، وهو وحده منزلة بين المنزلتين؛ وبذلك تميز وظهر، فإنه في إحدى الجهتين عقل جريء تمده رواية واسعة في علوم مختلفة، فنراه يبعث من عقله الحياة إلى الماضي حتى كأنه لم يمض، وهو في الجهة الأخرى علم مستفيض لا يقف عند حد الصحيفة أو الكتاب، بل لا يزال يلتمس له عقلًا يخرجه ويتصرف به، حتى يكبر عن أن يكون قديمًا بحتًا فينتظم الحاضر إلى ماضيه ويطلقهما إطلاقًا واحدًا.. لم يكن الشيخ جديدًا إلا بالقديم، ولا قديمًا إلا بالجديد؛ فإننا لا نعرف قديمًا محضًا ولا جديدًا صرفًا، ولا نقيم وزن أحدهما إلا بوزن من الآخر إذا أردنا بهما سنة الحياة؛ وأنت لن تجد حيًّا منقطعًا مما وراءه، بل أنت ترى الطبيعة قيدت كل حي جديد إلى أصلين من القديم لا أصل واحد هما أبواه فمنهما يأتي ومنهما يستمد وهُمَا أبدًا فيه وإن كان على حدة؛ وبعد، فلو جاريت السخافة العصرية المشهورة لقلت: إن المذهب القديم.. قد انهد ركن من أركانه، ونقص قنطار كتب من ميزانه؛ ولكن هذه السخافة في رأيي كما ترى من جماعة ائتلوا أن يطفئوا نجمًا في السماء؛ لأنه قديم، فاتفقوا على ذلك وأجمعوه بينهم وفرغوا من أمره، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كيف يهيئون العربات والمضخات التي تحمل إلى السماء بضعة أبحر ليصبوها على النجم ...
















مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید