المنشورات
الملاح التائه
إذا أردت أن أكتب عن شعر فقرأته، كان من دأبي أن أقرأه متثبتًا أتصفح عليه في الحرف والكلمة، إلى البيت والقصيدة والنهج، إلى ما وراء الكلام من بواعث النفس الشاعرة ودوافع الحياة فيها، وعن أي أحوال هذه النفس يصدر هذا الشاعر، وبأيها يتسبب إلى الإلهام، وفي أيها يتصل الإلهام به، وكيف يتصرف بمعانيه، وكيف يسترسل إلى طبعه، ومن أين المأتى في رديئه وسقطه، وبماذا يسلك إلى تجويده وإبداعه.
ثم كيف حدة قريحته وذكاء فكره والملكة النفسية البيانية فيه، وهل هي جبارة متعسفة تملك البيان من حدود اللغة في اللفظ إلى حدود الإلهام في المعنى، ملكة استقلال تنفذ بالأمر والنهي جميعًا، أو هي ضعيفة رخوة ليس معها إلا الاختلال والاضطراب، وليس لها ما يحمل الضعيف على طبعه المكدود كلما عنف به سقط به؟
أتبين كل هذا فيما أقرأ من الشعر، ثم أزيد عليه انتقاده بما كنت أصنعه أنا لو أني عالجت هذا الغرض أو تناولت هذا المعنى، ثم أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الاهتزاز التي يحدثها الشعر في نفسي؛ فإني لأطرب للشعر الجيد الوثيق أنواعًا من الطرب لا نوعًا واحدًا، وهي تشبه في التفاوت ما بين قطرة الندى الصافية في ورق الزنبقة وقطرة الشعاعة المتألقة في جوهر الماسة وموجة النور المتألهة في كوكب الزهرة.
وأكثر الشعر الذي في أيامنا هذه لا يتصل بنفسي ولا يخف على طبعي، ولا أراه يقع من الشعر الصحيح إلا من بعد، وهو مني أنا كالرجل يمر بي في الطريق لا أعرفه: فلا ينظر إلي ولا أنظر إليه، فما أبصر منه رجلًا وإنسانية وحياة أكثر مما أراه ثوبًا وحذاء وطربوشًا! والعجيب أنه كلما ضعف الشاعر من هؤلاء قوي على مقدار ذلك في الاحتجاج لضعفه، وألهم من الشواهد والحجج ما لو ألهم بعدده من المعاني والخواطر لكان عسى ...
فإذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت الألفاظ على معانيها قال: إن هذا في الفن.. هو الاستواء والاطراد والملاءمة وقوة الحبك؛ وإذا عوض وخانه اللفظ والمعنى جميعًا وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق وجاءك بشعره وتفسير شعره والطريقة لفهم شعره قال: إنه أعلى من إدراك معاصريه، وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره من وراء اللغة، من وراء الحالة النفسية، من وراء العصر، من وراء الغيب: كأن الموجود في الدنيا بين الناس هو ظل شخصه لا شخصه، والظل بطبيعته مطموس مبهم لا يبين إبانة الشخص. وإذا أهلك الشاعر الاستعارة وأمرض التشبيه وخنق المجاز بحبل -قال لك: إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقارب وأصاب وأحكم، وإذا سمى المقالة قصيدة.. وخلط فيها خلطه وجاء في أسوأ معرض وأقبحه وخرج إلى ما لا يطاق من الركاكة والغثاثة- قال لك: هذه هي وحدة القصيدة، فهي كل واحد أفرغ إفراغ الجسم الحي: رأسه لا يكون إلا في موضع رأسه ورجلاه لا تكون إلا في موضع رجليه..
تلك طبقات من الضعف تظاهرت الحجج من أصحابها على أنها طبقات من القوة، غير أن مصداق الشهادة للأقوياء عظامهم المشبوحة، وعضلاتهم المفتولة، وقلوبهم الجريئة، أما الألسنة فهي شهود الزور في هذه القضية خاصة.
هناك ميزان للشاعر الصحيح وللآخر المتشاعر: فالأول تأخذ من طريقته ومجموع شعره أنه ما نظم إلا ليثبت أنه قد وضع شعرًا، والثاني تأخذ من شعره وطريقته أنه إنما نظم ليثبت أنه قرأ شعرًا ... وهذا الثاني يشعرك بضعفه وتلفيقه أنه يخدم الشعر؛ ليكون شاعرًا، ولكن الأول يريك بقوته وعبقريته إلى الشعر نفسه يخدمه؛ ليكون هو شاعره.
أما فريق المتشاعرين فليمثل له القارئ بما شاء وهو في سعة.. وأما فريق الشعراء ففي أوائل أمثلته عندي الشاعر المهندس علي محمود طه. أشهد: أني أكتب عنه الآن بنوع من الإعجاب الذي كتبت به في "المقتطف" عن أصدقائي القدماء: محمود باشا البارودي، وإسماعيل باشا صبري، وحافظ، وشوقي -رحمهم الله وأطال بقاء صاحبنا- فهذا الشاب المهندس أوتي من هندسة البناء قوة التمييز ودقة المحاسبة، ووهب ملكة الفصل بين الحسن والقبح في الأشكال مما عِلَّته من العلم وما علته من الذوق وهذا إلى جلاء الفطنة وصقال الطبع وتموج الخيال وانفساح الذاكرة وانتظام الأشياء فيها؛ وبهذا كله استعان في شعره وقد خلق مهندسًا شاعرًا، ومعنى هذا أنه خلق شاعرًا مهندسًا؛ وكأن الله -تعالى- لم يقدر لهذا الشاعر الكريم تعلم الهندسة ومزاولتها والمهارة فيها إلا لما سبق في علمه أنه سينبغ نبوعه للعربية في زمن الفوضى وعهد التقلل، وحين فساد الطريقة وتخلف الأذواق وتراجع الطبع ووقوع الغلط في هذا المنطق لانعكاس القضية، فيكون البرهان على أن هذا شاعر وذاك نابغة وذلك عبقري -هو عينه البرهان على أن لا شعر ولا نبوغ ولا عبقرية؛ وهذه فوضى تحتاج في تنظيمها إلى "مصلحة تنظيم" بالهندسة وآلاتها والرياضة وأصولها والأشكال والرسوم وفنونها، فجاء شاعرنا هذا وفيه الطب لما وصفنا؛ فهو ينظم شعره بقريحة بيانية هندسية، أساسها الاتزان والضبط، وصواب الحسبة فيما يقدر للمعنى، وإبداع الشكل فيما ينشئ من اللفظ، وألا يترك البناء الشعري قائمًا ليقع إذ يكون واهنًا في أساسه من الصناعة، بل ليثبت إذ يكون أساسه من الصناعة في رسوخ وعلى قدر.
وديوان "الملاح التائه" الذي أخرجه هذا الشاعر لا ينزل بصاحبه من شعر العصر دون الموضع الذي أومأنا إليه؛ فما هو إلا أن تقرأه وتعتبر ما فيه بشعر الآخرين حتى تجد الشاعر المهندس كأنه قادم للعصر محملًا بذهنه وعواطفه وآلاته ومقاييسه ليصلح ما فسد، ويقيم ما تداعى، ويرمم ما تخرب، ويهدم ويبني.
ديوان الشاعر الحق هو إثبات شخصيته ببراهين من روحه، وههنا في "الملاح التائه" روح قوية فلسفية بيانية، تؤتيك الشعر الجيد الذي تقرؤه بالقلب والعقل والذوق، وتراه كفاء أغراضه التي ينظم فيها؛ فهو مكثر حين يكون الإكثار شعرًا، مقبل حين يكون الشعر هو الإقلال؛ ثم هو على ذلك متين رصين، بارع الخيال، واسع الإحاطة، تراه كالدائرة: يصعد بك محيطها ويهبط لا من أنه نازل أو عالٍ، ولكن من أنه ملتفٌ مندمج، موزون مقدر، وضع وضعه ذلك ليطوح بك.
وهو شعر تعرف فيه فنية الحياة، وليس بشاعر من لا ينقل لك عن الحياة نقلًا فنيًّا شعريًّا، فترى الشيء في الطبيعة كأنه موجود بظاهره فقط، وتراه في الشعر بظاهره وباطنه معًا؛ وليس بشعر ما إذا قرأته، واسترسلت إليه لم يكن عندك وجهًا من وجوه الفهم والتصوير للحياة والطبيعة في نفس ممتازة مدركة مصورة.
ولهذا فليس من الشرط عندي أن يكون عصر الشاعر وبيئته في شعره، وإنما الشرط أن تكون هناك نفسه الشاعرة على طريقتها في الفهم والتصوير، وأنت تثبت هذه النفس بهذه الطريقة أن لها أن تقول كلمتها الجديدة، وأنها مخولة له الحق في أن تقولها؛ إذ هي للعقول والأرواح أخت الكلمة القديمة: كلمة الشريعة التي جاءت بها النبوة من قبل.
وليس في شعر علي طه من عصرياتنا غير القليل، ولكن العجيب أنه لا ينظم في هذا القليل إلا حين يخرج المعنى من عصره ويلتحق بالتاريخ، كرثاء شوقي، وحافظ، وعدلي باشا، وفوزي المعلوف، والطيارين دوس وحجاج، والملك العظيم فيصل؛ فإن يكن هذا التدبير عن قصد وإرادة فهو عجيب، وإن كان اتفاقًا ومصادفة فهو أعجب؛ على أنه في كل ذلك إنما يرمي إلى تمجيد الفن والبطولة في مظاهرها، متكلمة، وسياسية، ومغامرة، ومالكة.
أما سائر أغراضه فإنسانية عامة، تتغنى النفس في بعضها، وتمرح في بعضها، وتصلي في بعضها؛ وليس فيها طيش ولا فجور ولا زندقة إلا ... ظلالًا من الحيرة أو الشك، كتلك التي في قصيدة "الله والشاعر"، وأظنه يتابع فيها المعري؛ ولست أدري كم ينخدع الناس بالمعري هذا، وهو في رأيي شاعر عظيم، غير أن له بضاعة من التلفيق تعدل ما تخرجه "لا نكشير" من بضائعها إلى أسواق الدنيا.
ومما يعجبني في شعر علي طه أنه في مناحي فلسفته وجهات تفكيره يوافق رأيي الذي أراه دائمًا، وهو أن ثورة الروح الإنسانية ومعركتها الكبرى مع الوجود -ليستا في ظاهر الثورة ولا العراك مع الله كما صنع المعري وأضرابه في طيشهم وحماقتهم، ولكنها في الهدوء الشعري للروح المتأملة، ذلك الهدوء الذي يجعل الطبيعة نفسها تبتسم بكلام الشاعر كما تبتسم بأزهارها ونجومها، ويجعل الشاعر أداة طبيعية متخذة لكشف الحكمة وتغطيتها معًا؛ فإن العجب الذي ليس أعجب منه في التدبير الإلهي للنفوس الحساسة -أن زخرفة الشعر وما يجري مجراه في الفن إنما هي ضرب من زخرف الطبيعة حين تبتدع الشكل الجميل لتتمم أغراضها من ورائه؛ ولو ثارت الأزهار -مثلًا- على الوجود وخالقه ثورة أولئك الشعراء لما صنعت شيئًا غير إفساد حكمتها هي وما يتصل بهذه الحكمة من المصالح والمنافع، ولن تنتصر إلا ببقائها أزهارًا، فذلك حربها وسلمها معًا.
وأسلوب شاعرنا أسلوب جزل، أو إلى الجزالة، تبدو اللغة فيه وعليها لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهوه فيكثر منه في النفس تأثيرها وجمالها، وهذه هي لغة الشعر بخاصته؛ ولا بد أن ننبه هنا إلى معنى غريب، وذلك أنك تجد بعض النظامين يحسنون من اللغة وفنون الأدب، فإذا نظموا وخلا نظمهم من روح الشعر- ظهرت الألفاظ في أوزانهم وكأنها فقدت شيئًا من قيمتها، كأن موضعها ثم هو الذي أعلن إفلاسه؛ إذ أقام مقام الذي يريد أن يعطي ثم هو إذا وقف لا يصنع شيئًا إلا أن يعتذر بأنه لم يجد ما يعطيه.. فهذا كان رجلًا من الناس، وكان في ستر وعافية، فلما وقف موقفه انقلب مدلسًا كاذبًا مدعيًا فاختلفت به الحال وهو هو لم يتغير.
وما الأسلوب البياني إلا وسيلة فنية لمضاعفة التعبير، فإن لم يكن هذا ما يعطيه كان وسيلة فنية أخرى لمضاعفة الخيبة؛ وهذا ما تحسه في كثير من شعر النظامين أو البديعيين في العصور الميتة، وتحسه في الشعر الميت الذي لا يزال ينشر بيننا.
وعلي طه إذا حرص على أسلوبه وبالغ في إتقانه واستمر بجريه على طريقته الجيدة متقدمًا فيها، متعمقًا في أسرار الألفاظ وما وراء الألفاظ، وهي تلك الروعة البيانية التي تكون وراء التعبير وليس لها اسم في التعبير، معتبرًا اللغة الشعرية -كما هي في الحقيقة- تأليفًا موسيقيًا لا تأليفًا لغويًا.. فإنه ولا ريب سيجد من إسعاف طبعه القوي، وعون فكره المشبوب، وإلهام قريحته المولدة- ما يجمع له النبوغ من أطرافه، بحيث يعده الوجود من كبار مصوريه، وتتخذه الحياة من بلغاء المعبرين عنها في العربية؛ ومن ثم تنظمه العربية في سمط جواهرها التاريخية الثمينة، ويصله السلك بشوقي وحافظ والبارودي وصبري، إلى المتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام، إلى ما وراء ذلك، إلى الجوهرة الكبرى المسماة جبل النور البياني، إلى امرئ القيس.
وليس هذا ببعيد على من يقول في صفة القلب:
يا قلب عندك أي أسرار ... ما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النار ... أقلقت جسم الكائن الحي
حملته العبء الذي فرقت ... منه الجبال وأشفقت رهبًا
وأثرت منه الروح فانطلقت ... تحسو الحميم وتأكل اللهبا
وعجبت منك ومن إبائك في ... أسر الجمال وربقة الحب
وتلفت المتكبر الصلف ... عن ذلة المقهور في الحرب
ووهمت نارًا ذات إيماض ... فبسطت كفك نحوها فزعا
مرت بعينك لمحة الماضي ... فوثبت تمسك بارقًا لمعا
والأرض ضاق فضاؤها الرحب ... وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب ... وبقيت وحدك أنت والزمن
ولو ذهبنا نختار من هذا الديوان لاخترنا أكثره، فقصائده ومقاطيعه تتعاقب، ولكن تعاقب الشمس على أيامها: تظهر جديدة الجمال في كل صباح؛ لأن وراء الصباح مادة الفجر، وكذلك تأتي القصائد من نفس شاعرها.
مصادر و المراجع :
١- وحي القلم
المؤلف: مصطفى
صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية
الطبعة: الأولى
1421هـ-2000م
عدد الأجزاء: 3
19 يوليو 2024
تعليقات (0)