المنشورات

ديوان الأعشاب *:

أبو الوفاء شاعر ملء نفسه، ما في ذلك شك، مذهبه الجمال في المعنى يبدعه كأنما يزهر به، والجمال في الصورة يخرجها من بيانه كما تخرج الغصون والأوراق من شجرتها، وله طبع وفيه ورقة، وهو يجري من البيان على عرق، وسليقته تجعله ألزم لعمود الشعر وأقرب إلى حقيقته، حتى أنه ليعد أحد الذين يعتصم الشعر العربي بهم، وهم قليل في زمننا، فإن الشعر منحدر في هذا العصر إلى العامية في نسقه ومعانيه، كما انحدر التمثيل، وكما انحدرت أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلات.
وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة، ومرجعها إلى روح الإباحة الذي فشا بيننا ونشأ عليه النشء في هذه المدنية التي تعمل في الشرق غير عملها في الغرب، فهي هناك رخص وعزائم، وهي هنا تسمح وترخص، في ظل ضعيف من العزيمة، وإهمال البلاغة العربية الجميلة كما هي في قوانينها ليس إلا مظهرًا لتلك الروح تقابله المظاهر الأخرى، من إهمال الخلق، وسقوط الفضيلة، وتخنث الرجولة، وزيغ الأنوثة، وفساد العقيدة، واضطراب السياسة، إلى ما يجري هذا المجرى مما هو في بلاغة الحياة المبينة كالمرذول والمطرح والسفساف في بلاغة الكلام الفصيح؛ كل ذلك في مواضعه تحلل من القيود وإباحة وتسمح وترخص، وكل ذلك عامية بعضها من بعض، وكل ذلك لحن في البلاغة والخلق والفضيلة والرجولة والأنوثة والعقيدة والسياسة.
والشعر اليوم أكثره "شعر النشر" في الجرائد، على طبيعة الجرائد لا على طبيعة الشعر؛ وهذه إباحة صحافية غمرت الصحف، وأخضعت أذواق كتابها لقوانين التجارة، فإنهم لينشرون بعض القصائد كما تنشر "الإعلانات": لا يكون الحكم في هذه ولا هذه لبيان أو تمييز أو منفعة، بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن!
ومن مادية هذا العصر وطغيان العامية عليه، أننا نرى في صدر بعض الجرائد أحيانًا شعرًا لا يكون في صناعة الشعر ولا في طبقات النظم أضعف ولا أبرد منه. ولا أدل على فساد الذوق الشعري، ولكنه على ذلك الأصل الذي أومأنا إليه يعد كلامًا صالحًا للنشر، وإن يكن صالحًا للشعر.
وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعل من الغفلة حذقًا تجاريًّا، ومن السقوط علوًا فلسفيًّا، ومن الركاكة بلاغة صحفية، ومتى تغير معنى الحذق، ودخلته الإباحة، ووقع فيه التأويل، وأحيط بالتمويه والشبه فالريبة حينئذ أخت الثقة، والعجز باب من الاستطاعة، والضعف معنى من التمكين، وكل ما لا يقوم فيه عذر صحيح كان هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه.
وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو في رأيي صناعة احتطاب من الكلام.. وقد بطل التعب إلا تعب التقشش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفسية في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني، وبهذه العامية الثقيلة أخذ الشعر يزول عن نهجه، ويضل عن سبيله، ووقع فيه التوغر السهل.. والاستكراه المحبوب.. وصرنا إلى ضرب حديث في الوحشية، هو الطرف المقابل للشعر الوحشي في أيام الجاهلية؛ فما دام الكلام غريبًا، والنظم قلقًا، والمأتي بعيدًا، والمعنى مستهلكًا، والنسج لا يستوي، والطريقة لا تتشابه فذلك كله مسخ وتشويه في الجملة وإن اختلفت الأسباب في التفصيل، وإذا كان المسخ جاهليًّا بالغريب من الألفاظ، والنافر من اللغات، والوحشي من المعاني؛ وكان عصريًّا بالركيك من الألفاظ، والنازل من التعبير، والهجين من الأساليب، والسخيف من المعاني؛ ثم بالسقط والخلط والاضطراب والتعقيد فهل بعض ذلك إلا من بعضه؟ وهل هو في الشعر الجميل إلا كسلخ الإنسان الذي مسخه الله فسلخه من معانٍ كان بها إنسانًا، ليضعه في معانٍ يصير بها قردًا أو خنزيرًا ليس عليه إلا ظاهر الشبه، وليس معه إلا بقية الأصل؟
فالقردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالًا في تطور الفن والعلم والفلسفة؛ وأنت متى ذهبت تحتج لزيغ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل لتصحيح فساده بالفن- فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر قردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأي ناظمه وافتتانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.
والشاعر أبو الوفاء جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه؛ والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة: لا تزكو زكاءها ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئًا عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذاك لتهيئة وتركيبه، فإن كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العطر، وهزال النضرة، وسقم الجمال.
ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفسًا متألمة حصرتها في أسباب ألَمِها حصرًا لا مفر منه -لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظمًا حائلًا مضطربًا منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي هي جهة السماء إليه، ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها -لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلًا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.
ولكن ما دامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطفقت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ؛ ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا فيحاول أن ينقب في الحائط ليجعلهما نافذتين.
أما أنه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عن منزلتها بين اليقين والعقل، أو المشهود والمحجب، أو الواقع والسبب، أو الرسم والمعنى -فتنقلب بين شعر القلب العاشق، وشعر الفكر المتأمل، شعر المعدة الجائعة، وتضع بين أشواق الكون شوقها هي إلى الطعام والثياب والمال..
على أنه كان الأمثل في التدبير، والأقرب إلى طريقة النفس الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشعور المادي الذي يتلذع به، فيحوله فيجعله بابًا من حكمة السخر الشعري بالدنيا وأهلها وحوادثها، كما صرفه ابن الرومي من قبل فأخطأ في تحويله، فجعله مرة بابًا من المدح والنفاق، ومرة بابًا من الهجاء والإقذاع. 
ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك، واتهم الدنيا ثم حاكمها، ونص لها القانون، وأجلس القاضي، وافتتح المجلس، ورفعها قضية قضية، ثم أخذها حكمًا حكمًا، تارة في نادرة بعد نادرة، ومرة في حكمة إلى حكمة، وآونة في سخرية مع سخرية -إذن لاهتدى هذا المتألم الرقيق إلى الجانب الآخر من سر الموهبة التي في نفسه، فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها، فكان ولا ريب شاعر وقته في هذا الباب، وإمام عصره في هذه الطريقة.
على أن في صفحات ديوانه أشياء قليلة تومئ إلى هذه الملكة، ولكنها مبثوثة في تضاعيف شعره، والوجه أن يكون وجهه في تضاعيفها، وإنه ليأتي بأسمى الكلام وأبدعه، حين يعمد إلى ذلك الأصل الذي نبهنا إليه، فيصرف لهفة نفسه إلى بعض وجوهها الشعرية، كقوله في "حلم العذارى" وهي من بدائعه ومحاسن شعره:
ها هما عيناك تغريـ ... ـني على شتى الظنون
فيهما بحر وموج ... وسهول وحزون
ووضوح وغموض ... واضطراب وسكون
ومعانٍ بينات ... ومعانٍ لا تبين
وتهاويل فنون ... من رشاد وجنون
وأشعات حيارى ... من منى أو من حنين
ليت شعري أي سر ... خلف هاتيك الجفون
آه إن السر أنبا ... عنه ذان الطائران
حينما مالا على غصـ ... ـنيهما يعتنقان..
فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده..














مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید