المنشورات
الأمر بإغباب زيارة الأحباب والنهي عن مداومة غشيان الأصحاب
روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: زُر غباً تزدد حباً. وقال بعض الحكماء: من كثرت زيارته قلت بشاشته. وقال آخر: من أدمن زيارة الأصدقاء عدم الاحتشاد عند اللقاء. وقال آخر:
أقلل زيارتك الصدي ... ق تكون كالثوب استجده
إن الصديق يُملُّه ... أن لا يزال يراك عنده
وقال آخر:
عليك بإقلال الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت القطر يسأم دائباً، ... ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
وأنشدت لأبي تمام حبيب بن أوس:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه، فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وأنشدني لإبراهيم بن المهدي:
إني كثرت عليه في زيارته، ... والشيء مستثقل جداً إذا كثرا
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عني إذا نظرا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لا تجعلن أحداً عليك، إذا ... أحببته، وهويته، ربَّا
وصل الصديق، إذا كلفت به ... واطوِ الزيارة دونه غبا
فلذاك خير من مواصلة، ... ليست تزيدك عنده قُربا
لا بل يملك عند دعوته، ... فيقول: آه، وطالما لبَّى
وقال آخر:
أغبَّ الزيارة لما بدا ... له الهجر، أو بعض أسبابه
وما صدّ هجراً، ولكنه ... طريد ملالة أحبابه
وكتب بعض الظرفاء رقعة، وطرحها في مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر حيث حرم القيان:
عزمات الأمير، أصلحه الل ... هـ بحسن الإرشاد، والتوفيق
باعدت بيننا وبين عُجابٍ، ... ومديل، ومنصف، وصديق
فوقع محمد في ظهر الرقعة:
حسن رأي الأمير في العشاق، ... وفّرَ الحظ في بعاد التلاقي
خاف أن يحدث الوصال ملالاً، ... فتلافى الهوى ببعض الفراق
وأنشدني بعض الأدباء:
إني رأيتك لي محباً، ... وإليّ حين أغيب صبّا
فهجرت لا لملالة ... حدثت، ولا استحدثت ذنبا
إلا لقول نبينا: ... زوروا على الأيام غبّا
ولقوله: من زار غ ... باً منكم يزداد حباً
وهجرت، حين هجرت، كي ... أزداد بالهجران قربا
الله يعلم أنني ... لك أخلص الثَّقلين قلبا
أرعى لك الود القدي ... م، وإن جنيت عليَّ حربا
ومن ذلك ما روي أن العتابي دخل على يحيى بن خالد البرمكي، وكانت له جارية، يقال لها خلوب، تجالس الأدباء، وتناقض الشعراء، فقال لها: سليه لإبطائه عنا جائزة، فقالت له: قل له هذه القافية:
إذا شئت أن تقلى، فزر متواتراً، ... وإن شئت أن تزداد حباً، فزر غبا
فأنشأ يقول:
بقيت بلا قلب لأني هائم، ... فهل من معير، يا خلوب، بكم قلبا
حلفت لها بالله أنك منيتي، ... فكوني لعيني حيث ما نظرت نصبا
عسى الله يوماً أن يرينيك خالياً، ... فأجني بلحظي من محاسنكم عجبا
يقولون لا تكثر زيارة صاحب، ... فإنك إن أكثرته كره القربا
وكيف يطيق الصبّ سلوان حبه، ... إذا كان مشغوفاً قد استشعر الكربا
وقد قال بيتاً، ما سمعت بمثله، ... خليٌّ من الأحزان لم يذق الحبا
إذا شئت أن تقلى، فزر متواتراً؛ ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غبا
فقال له: لله أبوك أحسنت، خذ بيدها فهي لك! وأمر له بألف درهم.
واعلم أن كل ما رسمناه في هذه الأبواب، وذكرناه، وشرطناه على الأدباء، ووجدناه داخلاً في باب حدود الأدب، على ما أصبناه، غير خارج منه، ولا منفصل عنه، وأن يكون الأديب عاقلاً واللبيب كاملاً، حتى تكون له مودة قد قرنها بأدبه، وثابر عليها في طلبه، فإذا جمع ذلك رهب منه الأعداء، ورغب فيه الأولياء. وسنذكر من أنشأته المروة، فيكون فيه بلاغ وهداية، إن شاء الله تعالى.
مصادر و المراجع :
١- الموشى = الظرف والظرفاء
المؤلف: محمد بن
أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)
المحقق: كمال
مصطفى
الناشر: مكتبة
الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد
الطبعة: الثانية،
1371 هـ - 1953 م
19 يوليو 2024
تعليقات (0)