المنشورات
الحث على كتمان السر والترغيب في حفظ ما حنّت عليه ضلوع الصدّر
روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: استعينوا على حوائجكم بكتمان السرّ.
وكان يقال: سرّك من دمك، فانظر أين تجعله.
وكان يقال: ما كتمته من عدوك، فلا تطلع عليه صديقك.
وقال المهلب بن أبي صفرة: من ضاق قلبه اتسع لسانه. وأنشدني أحمد ابن يحيى لقيس بن الحُدادية الخزاعي:
بكت من حديث نمّه، وأشاعه، ... ولفقه واش من القوم واضع
بكت عين من أبكاك لا يشجك البكا ... ولا تتخالجك الأمور النوازع
ولا تسمعي سرّي وسرّك ثالثاً، ... ألا كل سر جاوز اثنين ضائع
وأنشدني لبعض الطالبيين:
أكافي خليلي ما استقام بوده، ... وأمنحه ودي، إذا يتعتب
ولست ببادي صاحبي بقطيعة، ... ولا أنا مفش سره، حين أغضب
عليك بإخوان الثقات، فإنهم ... قليل، فصلهم دون من كنت تصحب
وما الخدن إلا من صفا لك وده، ... ومن هو ذو نصح، وأنت مغيب
إذا ما وضعت السر عند مُضيِّع، ... فذو السر ممن ضيّع السّرّ أذنب
وقال معاوية بن أبي سفيان: الحازم من كتم سره من صديقه مخافة أن تبدَّل صداقته عداوة، فيذيع سره. وقال بعض الشعراء:
تواقف معشوقين من غير موعد ... وغيب عن نجواهما كل كاشح
وكلّت جفون الماء عن حمل مائها، ... فما ملكت فيض الدموع السوافح
وإني لأطوي السرّ عن كل صاحب، ... وإن كان للأسرار عدل الجوانح
وكتب عبد الملك بن مروان ببعض سره إلى الحجاج بن يوسف، ففشا، حتى بلغه ذلك، فكتب إليه عبد الملك يعاتبه، فكتب إليه: والله، يا أمير المؤمنين، ما أخبرت به إلا إنساناً واحداً. فكتب إليه عبد الملك: إن لكل إنسان نصيحاً يفشي إليه سره.
وقال بعض الشعراء في ذلك:
ألم ترَ أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
فلا تفش سرك إلا إليك، ... فإن لكل نصيح نصيحا
وقال آخر:
إذ أنت لم تحفظ لنفسك سرها، ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع
وقال آخر:
أمت السر بكتمان، ولا ... يبدون منك إذا استودعت سرّ
فإذا ضقت به ذرعاً فلا ... تجعلن سرك إلا عند حرّ
وقيل لأعرابي استودع سراً فكتمه: أفهمت؟ قال: لا، بل نسيت. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: قيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر.
وقيل لأعرابي: كيف حفظك للسر؟ فقال: أنا لحده.
ومما استحسنته في كتمان السر قول كثُير:
أتى دون ما تخشون من بث سركم ... أخو ثقة، سهل الخلائق، أروع
ضنين ببذل السر، سمح بغيره، ... أخو ثقة، عفُّ الوصال، سميدع
أبى أن يبث، الدهر، ما عاش، سركم ... سليماً، وما دامت له الشمس تطلع
وله أيضاً:
كريم يميت السر، حتى كأنه، ... إذا استنطقوه عن حديثك، جاهله
رعى سركم في مضمر القلب والحشا، ... شفيق عليكم، لا تخاف غوائله
وأكتم نفسي بعض سري تكرماً، ... إذا ما أضاع السر في الناس حامله
وقول صاحبه أيضاً:
لعمري ما استودعت سري وسرها ... سوانا، حذاراً أن تشيع السرائر
ولا خاطبتها مقلتاي بنظرة، ... فتعلم نجوانا العيون النواظر
ولكن جعلت اللحظ بيني وبينها ... رسولاً، فأدى ما تجن الضمائر
ومنه قول الآخر:
ليهنك مني أنني غير مظهر ... هواك، ولو أشرفت منه على نحبي
ولو أن خلقاً كاتم الحب قلبه ... لمتُّ، ولم يعلم بحبكم قلبي
وقال آخر:
لو أن امرأً أخفى الهوى عن ضميره، ... لمتُّ، ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقى الله، والقلب لم يبح ... بسرّك، والواشون عنك كثير
وقال العباس بن الأحنف:
أيا من سروري به شقوة، ... ومن صفو عيشي به أكدر
تجنيت تطلب ما أستحق ... به الهجر، هيهات لا يقدر
وماذا يضرك من شهرتي، ... إذا كان سرّك لا يشهر
أمني يُخاف انتشار الحديث، ... وحظي في صونه أكثر
ولو لم يكن فيه بقيا عليك، ... نظرت لنفسي، كما تنظر
وأنشدني لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
ومؤتمن بالحزم في كل أمره، ... وأسراره منه بحيث المقاتل
فلا سره عن ساحة الصدر نازح، ... ولا هو عن سرٍّ تعداه سائل
ولغيره في مثله:
فلنقل الجبال أهون من بث ... حديث حنت عليه الضلوع
فلك الله أنني لك راعٍ، ... ما بدا كوكب، وبرق لموع
وأنشدني أحمد بن عبد الله قال: أنشدني ابن الكلبي لابن أمينة:
وإني على السر الذي هو داخل، ... إذا باح أصحاب الهوى، لضموم
وإني ما استودعت، يا أم مالك، ... على قدم من عهدنا، لكتوم
وقال أبو الطيب: الضموم: الممسك، وكذلك الزميت أيضاً. وقال آخر:
وحاجة دون أخرى قد شجيت بها، ... خلفتها للذي أخفيت عنوانا
إني كأني أرى من لا حياء له، ... ولا أمانة، وسط الناس، عريانا
وأنشدني أحمد بن يحيى بن الخطيم:
وإن ضيع الأحرار سراً، فإنني ... كتوم لأسرار العشير، أمين
يكون له عندي إذا ما ضمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
وقال بشار بن برد المرعث:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم، ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
لأخرجن من الدنيا وسرهم ... بين الجوانح، لم يعلم به أحد
وأحسن، والله، الذي يقول:
يأبى لي الذم أخلاق ومكرمة ... مني، وأذن عن الفحشاء صماء
والنجم أقرب من سري إذا اشتملت ... مني على السر أضلاع وأحشاء
والذي قيل في ذلك كثير جداً يطول به الخطب ويتسع فيه القول. وليس قصدنا في كتابنا هذا المعنى، وإنما تقدمنا بذكر ما شرحناه ونعت ما وصفناه، لأنه لا بد للظريف من استعمال كل ما ذكرناه من حدود الأدب وشرائع المروة، واعلم أن مذهبنا في هذا المتاب إلى معنى صفة الظرف، وما يجب على الظريف استعماله، وذكر ما يجب عليه تركه، وما اخترعنا في كتابنا هذا علماً من عند أنفسنا، يجب لنا به الامتحان، ولا يلحقنا فيه عيب من عاب، إن عاب، ولا على أنه لا يطلب لفظه، ولا يمتنع عند معايبهم إلا معيب. وأنشدنا أحمد بن يحيى قال: أنشدني ابن السكيت:
رب غريب ناصح الجيب، ... وابن أب متهم الغيب
ورب عيّاب له منظر ... مشتمل منه على العيب
ولكنا ألفناه وجمعناه من أقاويل جماعة من الظرفاء والمتظرفات، وأهل الأدب والمروات، سمعناهم، ورأيناهم يتكلمون به، ويستعملونه، فأحببنا أن نجمع ذلك، ونجعله لهواً لمن أراد سماعه، وعلماً لمن أراد اتباعه، وهدياً لمن أراد رشده، ومناراً لمن أراد قصده، وطيباً لمن أراد شمّه، وأدباً لمن أراد فهمه. وكتابنا هذا روضة تتنزه فيها العقول، وعقود جوهر زينتها الفصول، إذ لم نخله من أخبار طريفة، وأشعار ظريفة، وأشياء نمت إلينا من زي ظرفاء الناس في الطعام، والشراب، والعطر، واللباس، ومذهبهم فيما اجتنبوه من ذميم الأفعال، واستحسنوه من جميل الشيم والأخلاق، وسأشرح ذلك وأبينه باباً باباً لتقف عليه، إن شاء الله.
مصادر و المراجع :
١- الموشى = الظرف والظرفاء
المؤلف: محمد بن
أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)
المحقق: كمال
مصطفى
الناشر: مكتبة
الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد
الطبعة: الثانية،
1371 هـ - 1953 م
19 يوليو 2024
تعليقات (0)