المنشورات
الغدر طبع في النساء
وإن الغدر في النساء طبع، والمطل منهن غريزة، وهو في النساء أكثر منه في الرجال، فقد أنشدني بعض الأدباء:
وكنا جعلنا الله شاهدَ بيننا، ... وفي الله بينَ المسلمين شهيدُ
فخِستِ بعهد الله لو تعلمينه، ... وفيكُنّ من ليست لهنّ عهودُ
واعلم أنهنّ لا عهود لهنّ، ولا وفاء لحبّهن، ولا دوام لودّهن، وأن أقبح ما رُوي من غدرهنّ ما حدثنيه ابن أبي خيثمة عن شيوخه: أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل كانت عند ابن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه، فأحبها حباً شديداً شغلته عن تجارته، فأمره أبو بكر، فطلّقها، ثم اطّلع عليه وهو يقول:
فلم أر مثلي طلّق، اليوم، مثلها، ... ولا مثلها في غير جُرمٍ تُطلَّقُ
لها خُلُقٌ سهلٌ، وحُسنٌ، ومنصِبٌ، ... وخلاْقٌ، سَويٌّ ما يُعاب، ومنطق
أعاتكَ قلبي، كل يومٍ وليلةٍ، ... إليكِ ما تُخفي النفوس مُعلَّقُ
أعاتكَ لا أنساكِ ما حجّ راكبٌ، ... وما لاح نجمٌ في السماء محلِّقُ
فرقّ عليه أبو بكر وأمره فراجعها، فقال لما رجعت إليه:
أعاتكَ! قد طُلّقتِ من غير بغضةٍ، ... ورُوجِعتِ للأمر الذي هو كائنُ
كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ، ... على الناس، فيه أُلفةٌ وتبايُنُ
وما زال قلبي للتفرّق بائناً، ... فقلبي لما قد قرّب الله ساكنُ
ليهنِكِ أني لم أجد منك سَخطةً، ... وأنك قد جَلّت عليك المحاسنُ
وأنك ممن زيّن الله أمرها، ... وليس لما قد زيّن الله شائنُ
فلن تزل عنده، حتى قُتل يوم الطائف، رُمي بسهم فمات، فجزعت عليه جزعاً شديداً وقالت ترثيه:
أآليتُ لا تنفكّ عيني حزينةً ... عليك، ولا ينفكّ جِلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتىً ... أشدّ، وأحمى في الهياج، وأصبرا
إذا أُشرِعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت، حتى يترُكَ الرمح أشقرا
ثم خطبها عمر بن الخطاب، فتزوّجها، فأولم عليها، ودعا أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: فقال له علي بن أبي طالب: ائذن لي لأُدخِل رأسي إلى عاتكة أكلّمها؛ قال: افعل، فأدخل رأسه إليها فقال: يا عُديّة نفسها! أهكذا كان قولك:
أآليتُ لا تنفكّ عيني سَخينةً ... عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا!
فبكَت، فقال له عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟ فغفر الله لك، أنهنّ يفعلن هذا، قال: أردتُ أن أُعلمها أنه لا عهد لهنّ، فمكثت عنده، حتى قُتل أبو لؤلؤة، فقالت ترثيه:
عينِ جودي بعبرةٍ ونحيبِ ... لا تَملّي على الأمير النجيب
فجعتني المَنونُ بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتأتيبِ
عصمة الله، والمُعين على الده ... ر، غياث الملهوف والمكروبِ
قل لأهل البأساء والضُّرّ: موتوا، ... قد سقته المنون أمُّ الرقوب
ثم تزوّجها الزبير بن العوام، فمكثت عنده حتى قُتل عنها، منصرفاً من الجمل، بوادي السباع، قتله ابن جرموز فرثتْه، وفيه تقول:
غَدَرَ ابنُ جُرْموز بفارس بُهمةٍ، ... يوم اللقاء، وكان غير مُعرِّدِ
يا عمرو لو نبّهتَه لوجدْتَهُ ... لا طائشاً، رُغْبَ الجنان، ولا اليد
ثكلتك أمُّك أن قتلتَ لمسلماً ... حلّت عليك عقوبة المتعمِّدِ
فخطبها عليّ بن أبي طالب، فبعثت إليه: إني لأضَنّ بك عن القتل، وإنما استحْيَت فامتنعت، وقد تزوجت باثنين من بعد قولها:
أآليتُ لا تنفكّ عيني سَخينةً ... عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا
قال: وحدثني أبو الفضل الربيع قال: حدثني أبو ربيعة العامري الكوفي قال: حدثني علي بن عمرو الأنصاري قال: دخلت المُدلّة البَكرية، زوجة المُغيرة بن أبي ضِمام البكري، وكان يحبّها حباً شديداً، على المغيرة بن أبي عقيل، تُخاصم في بعض أمورها، فلما خرجت المُدلّة قال: أنت التي يقول فيك المُعَذَّل:
قلْ للمدلّة طال ذا التعديدُ، ... فدعي التعلُّلَ والمِطالَ قليلا
ويّزيدها حَلْي النساء مَلاحةً، ... ويَزيد ذلك بعضهن خُبولا
قالت: نعم. قال: فلِم تزوّجت بعده؟ أفٍّ لكنّ! قالت: أتنصف ما كنتُ بديّاً، وما بَنيّاً! فضحك منها وأمرها بالانصراف.
ورُوي أن امرأة من نساء العرب تزوّجت رجلاً من خَشْعَم، فوجد كل واحد منهما بصاحبه وجداً شدياً، وأنهما تحالفا أن لا يتزوج أحدهما بعد صاحبه، فمات قبلها، فتزوجت، فلامها بعض أهلها، وقالوا: أين ما كنت تجدين به؟ فأنشأت تقول:
وقد كان حُبي ذاك حباً مُبرِّحاً، ... وحُبّي لذا إذ مات ذاك شديد
وكان هواي عند ذاك صَبابةً، ... وحبّي لذا، طول الحياة، يزيد
فلما مضى عادت لهذا مَوَدّتي، ... كذاك الهوى، بعد الذهاب يعودُ
وقال صالح بن حسان: لما احتُضر حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كانت فاطمة بنت حسن بن علي جالسةً عند رأسه تبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قالت: على فراقك، ابن عمّ، قال: مَهْ! ما صنعتِ؟ فإياك أن تنكحي عبد الله بن عمرو بن عثمان، وقد علم أن أحداً لا يجترئ على خُطبتها غيره. قالت: ما كنتُ لأفعل. وهلك، وله منها عبد الله بن حسن، وإبراهيم بن حسن. فلما انقَضَت عدّنها دعت مولاةً لها يقال لها: زير، فقالت: إيتي عبد الله بن عمرو، فقولي له: أعرنا بغلتك الشهباء برحالتها، فإني قد أردت أن أسير إلى بعض أموال ولدي بالعالية. فأتته، فقال: يا زير لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! ارحلوا لها البغلة. فلما جاءت قالت: هل لقيته؟ قالت: نعم! قالت: فما قال لك؟ قالت قال: لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! قالت: يلكِ، وأين المذهب عنه؟ فرجَعت زير، فدخلت عليه وأعلمته، فأرسل إليها، فخطبها، فتزوجته، وولدت له الهيثم ومحمداً ورقيّة، وكان لها من الحسنِ ثلاثة، ومن عبد الله ثلاثة.
ورُوي عن سماك بن حرب أنه قال: كانت العرب تقول: لم تُنْهَ امرأةٌ قطّ عن رجل إلا تزوجته.
وقال ابن عباس: حدثني شيخٌ من بني ضبّة قال: كان رجل منا ظريفاً شريفاً احتُضر، فبينا هو يجود بنفسه، وبُني له يُسمّى مَعْمَراً يدبّ بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم التفت إلى امرأته، فقال: يا هذه، إني لأخشى أن أموت، فتُنكَحي، ... ويُقدف في أيدي المراضع مَعمرُ
فحالت ستورٌ بعده ووليدةٌ، ... وأشغلهم عنه نحورٌ ومُجْمَرُ
قالت: ما كنتُ فاعلةً. قال الشيخ: فوالله ما انقضت عنها عِدّتها حتى تزوجت بشابّ من الحي، ورأيت كما مصف.
قال: وأنشدني بعض الشعراء:
إنّ من غَرّه النساء بشيءٍ، ... بعد هند لجاهلٌ مغرورُ
كل أنثى، وإن بدا لك منها ... غاية الحب، حبُّها خَيتَعورُ
وإن الوفاء فيهن عَزيز، وغير موجود، ووالله لئن كان كذاك وعُرفن بذاك، ففي الرجال من هو أكثر منهن غدراً، وأسرع منهن خَتراً، وأسمح منهن تنقّلاً، وأقبح منهن تبدُّلاً.
مصادر و المراجع :
١- الموشى = الظرف والظرفاء
المؤلف: محمد بن
أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)
المحقق: كمال
مصطفى
الناشر: مكتبة
الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد
الطبعة: الثانية،
1371 هـ - 1953 م
19 يوليو 2024
تعليقات (0)