المنشورات

عبد الله بن علقمة وحُبيشة

وقد رُوي أيضاً عن أبي حَدْرَد الأسلمي قال: نشأ فينا غُلامٌ يقال له: عبد الله علقمة، فعلق جاريةً منا يقال لها حُبيشة لم تكن من فخذه، وكان يتحدّث إليها كثيراً. فخرج ذات يوم من عندها، فنظر إلى ظبيةٍ على رابية فالتفت إلى أمّه وهو يقول:
يا أُمّتي خبّريني غير كاذبةٍ، ... وما يُريد مَسولُ الخُبرِ بالكذبِ
حُبيشٌ أحسنُ أم ظبيُ برابيةٍ، ... لا بل حُبيشةُ من ظبيٍ ومن ذهبِ
ثم انصرف من عندها مرة أخرى فأصابته السماء، فأنشأ يقول:
وما أدري إذا أبصرتُ يوماً، ... أصوب القطر أحسن أم حُبيشُ
حُبيشة والذي خلق الهدايا، ... على أن ليس عند حُبيشَ عيشُ
فلما سمع بذلك قومه قالوا لأمه: هذا غلامٌ يتيمٌ لا مال عنده، وآل تلك يرغبون عنكم، فانظري له بعض نساء قومه، لعله يسْلى عنها، فزوّجته جاريةٌ ذات جمال وكمال، وزيّنتها بأحسن زينةٍ، وأقامتها بين يديه، فلما نظر إليها قال: مرعىً ولا كالسعدان! فذهبَت كلمتُه مثلاً، والسعدان نَبْتٌ يرعاه إبل الملوك؛ فعلموا أنه لا ينصرف عن هواها. فتواعدوا حُبيشة وقالوا: إذا جاء فأعرضي عنه، وتجهّميه بالكلام، رجاء أن ينصرف بعض الانصراف. فلما رآها لم تستطع أن تفعل ما أُمرت به غير أنها جعلت تنظر إليه وتبكي، فعلم بقصّتها، فانصرف وهو يقول:
وما كان حبي عن نوالٍ بذلتُه، ... فليس بمُسليه التجهّن والهَجر
سوى أن دائي منك داءٌ مودةٍ، ... قديماً ولم يُمزَج كما مُزج الخمر
وما أنس ملأشياء لا أنسَ دمعها ... ونظرتها حتى يُغيّبني القبر
ثم مكثا على حالهما، وطول وحدهما، إلى أن وافتهما خيلٌ خالد بن الوليد يوم الغُميضاء، فأُخذا فيمن أُخذ من الأسرى فأُوثقا رباطاً.
وهذا حديثٌ مشتهر قد رواه محمد بن حميد الخُراساني عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، وحكاه المدائني عن يعقوب بن عُتبة بن المُغيرة الثقفي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي حَدْرَد الأسلمي عن أبيه قال: كنتُ يوم الغُميضاء، وهو يوم بني جذيمة، في خيل خالد بن الوليد المخزومي، حين وجهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل وأسر، فقال لي فتىً منهم، وقد جُمعت يداه إلى عُنُقه، ونُسوةٌ مجتمعاتٌ غير بعيدٍ منه: يا فتى! هل أنت آخذٌ بزمام ناقتي، فقائدي إلى هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم ترى بعد ذلك ما بدا لك؟ قلتُ: يسيرٌ ما سألتَ، فألحقته بهن، فوقف عليهن، فاقل: اسلمي حُبيش على نفاذ العيش! قالت: وأنت فاسلم سعيتَ سقاك ربي الغيث؛ ثم قالت: وأنت فحُيّيتُ عشراً وسبعاً وِتراً وثمانياً تترى، فقال الفتى:
أريتكِ إذ طالبتكم، فوجدتكم ... بحَليةَ، أو ألفيتكُم بالخوانقِِ
ألم يكُ حقّاً أن يُنوَّلَ عاشقٌ ... يُكلَّفُ إدلاج السُّرى والودائقِ
فلا ذنب لي، قد قلت إذ نحن جِيزةٌ: ... أثيبي بوُدٍّ قبل إحدى الصفائق
أثيبي بودٍّ قبل أن يشحط النوى، ... وينأى عدوٌّ بالمحب المفارق
فإني ما ضيّعتُ سر أمانةٍ، ... ولا راق عيني، بعد وجهك، رائقُ
على أن ما نال العشيرة شاغلٌ ... عن الودّ إلا أن يكون التَّوامقُ
ثم بكى وبكت، ثم أنشأ يقول:
فإن يقتلوني، يا حُبيشُ، فلم يدع ... هواكِ لهم مني سوى غُلّةِ الصدرِ
وأنتِ التي انحلت جِلدي على دمي، ... وعظمي، وأسبلت الدموع على النحر
ثم انصرفت به، فضربتُ عنقه، فنظرتْ إليه فأقبلت حتى أكبّت عليه.













مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید