المنشورات

السواك وما قيل في عود الأراك

اعلم أن من زيّ الظرفاء، وأهل المروّة والأدباء، وأرباب الديانة والترفُّل، استعمال السِّواك والتسوُّك، فهو أنبل النظافة، وأحسن الطهارة، وأكمل المُروّة، ويرغب فيه أهل الظرف والفُتوّة، وله خِصالٌ مستحسنةٌ، وهو أيضاً من السُّنّة.
وقد روي في الخبر المأثور عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " طهِّروا أفواهك فإنها مسالكُ التسبيح ".
وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: " السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب ".
وحدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن شَيبة عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمر عن عائشة قالت: " قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للربّ ".
وعن علي بن أبي طالب، عليه السلام: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل تسوّك.
وعن أبي المَليح عن واثِلة بن الأسقَع قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لقد أمرتُ بالسواك، حتى حسبتُ أن يكون يُكتب عليّ ".
وعن ابن أبي مُليكة قال: عائشة تقول: " مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيتي، وليلتي، ويومي، وبين سَحْري ونحري، وخلطْتُ ريقه بريقي. فقلت: يا أمّ المؤمنين، وكيف خَلَطت ريقه بريقكِ؟ قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواكٌ، فنظر إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: قد اشتهى السواك، فأخذتُ سِواكه فمضغته ثم أعطيته، فاستاك، عليه السلام، فلم يشغل النبي، صلى الله عليه وسلم، نزول الموت عن طلب السواك، إذ هو أظرف ما استُعمل، وأنبل ما استُحسن، لأنه يُبيّض الأسنان، ويُصفّي الأذهان، ويُطيّب النكهة، ويطفئ المِرّة، ويُنشّف البلغم، ويَشُدّ اللثّة، ويُقوّي العُمور، ويجلو البصر، ويُحدّ النظر، ويفتح السُّدَدَ، ويُشهّي الطعام.
وقد استعملوا أمر المَساويك الأراك وقصب السكّر، وأصول السوس، وعود المَحلَب، وعُروق الإذخِرِ، وعُقَد العاقِرْقَرحا، وكلما أغربوا في اتخاذ ذلك كان أكمل لظَرفهم، وأبلغ في معاني وصفهم.
وللمَساويك أوقاتٌ معلوماتٌ، ومواضع محدوداتٌ، لا تُستعمل في غير أوقاتها، ولا يُتجاوز بها عن ساعاتها، فجائزٌ استعمالها بالغَدَوات والعَشيّات، وأوقات الظهيرات، وقبل الغَداة، وبعد الصلاة، وعلى الريق، وعند النوم، وفي نهار الصوم.
ولا يجوز السواك عندهم في موطن شتّى، منها: الخَلاء، والحمّام، وقارعة الطريق، ومَحفِل الناس؛ ولا يَستاك أحدهم وهو قائمٌ، ولا متّكئٌ، ولا نائمٌ، ولا حيث يراه أحدٌ، ولا يَستاك ويتكلّم.
والسواك في الخَلاء والحَمّام من فِعل السِّفلة والعوامّ، وهو أيضاً يُرخي اللثّة، ويُغيّر النكهة، وليس ذلك عندهم من فِعل الأدباء، ولا من فعل ذوي المُروّة والظرفاء. وقد اتخذ أهل الظرف للمساويك طُسوتاً لِطافاً، وأباريق الشَّبَه الخِفاف، وكراسي الأبنوس المصدَّفة، والخيزران المُشبّكة، والأحقاق المخروطة، والمِسواكْدَانات المدهونة، والسَّنونات المعمولة، ووقّتوا له الأوقات المعلومة، التي جعلوها كالفرائض المكتوبة، والسُّنن المفروضة، يتأهّبون لوقته.
ولا يَستعملون رأس المسواك مدةً طويلة، وذلك عندهم من الأفعال الذليلة، ويتّخذون لها لفائف الحَزّ، وعصائب القَزّ، ليصونوها بذلك عن الدَّنس، ويوقّوها من الغُبار والنجَس، وقد تهادى أيضاً أهلُ الظرف المَساويك، وأقاموها مقام الرهينة، والتذكرة، والوَديعة، والقُبلة، كما فعلوا باللُّبان الممضوغ، والتفاح المَعضوض. وقال العبّاس بن الأحنف:
طال ليلي بجانب المَيدان ... مع جَواري المهديّ والخيزرانِ
أرسلَت باللُّبان قد مضغَته ... بين تفّاحتين في ريحانِ
وبمسواكها الذي اختاره الل ... هـ لفيها من طيّب الأغصانِ
فكأني وجدتُ ريحاً من الفِرْ ... دوس فاحَت من ريح ذاك اللُّبانِ
وقال أيضاً:
ولّما وهبتُم خاتماً فرددتُه ... لمعرفتي أنّ الخَواتيم تقْطَعُ
فأهدي سِواكاً مسّ فاكِ فإنه ... يُسكِّن ناراً في جَوى القلب تلذَعُ
وقال بشار بن برد العُقيلي يذكر ذلك أيضاً:
تسوّكتْ لي بمسواكٍ لتُعلِمني ... ما طعم فيها وما همّت بإصلاحِ
لما أتاني على المِسواك ريقتُها ... مَثلوجةً، كزُلال الماء بالراحِ
قبّلتُ ما مسّ فاها ثم قُلتُ له: ... يا ليتني كنتُ ذا المسواك يا صاحِ
وقال أيضاً:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختَبَرٍ ... لولا شهادةُ أطراف المَساويكِ
إن الذي راحَ مَغبوطاً بنعمته ... كفٌّ تَمَسُّكِ أو كفٌّ تُعاطيكِ
ولو وهبتِ لنا يوماً نعيش به ... أحييتِ نفساً وكانت من مَساعيكِ
يا رحمة الله حُلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفِردوس من فِيكِ
وقال أيضاً:
يطيبُ مِسواكُها من طيبِ نكهتها ... وإن ألمَّ بجِلدٍ جِلدّها طابا
وقال آخر:
وبرّاقةٍ تفترُّ عن مُتبسَّمٍ ... كنور الأقاحي طيّب المُتذَوَّقِ
إذا مضغَت بعد امتناعٍ من الضُّحى ... أنابيب عيدان الأراكِ المُخلَّقِ
سَقَتْ شُعَبَ المِسواك ماء غَمامةٍ ... فضيضاً بممزوج العُقار المُصفَّقِ
وقال جرير:
ما استوصفَ الناسُ من شيء يَرُوقُهُمُ ... إلا أرى أُمَّ نوحٍ فوق ما وصفوا
كأنها مُزنةٌ غَرّاءُ رائحةٌ ... أو دُرّةٌ لا يُواري لونَها الصَّدفُ
مكسورة الثدْي في لُبٍّ يُزيِّنها ... وفي المَناصِبِ من أنيابها عَجَفُ
تسقي غَمام ندى المِسواكِ ريقتَها ... كما تضمّن ماءَ المُزنةِ الرَّصَفُ
وقال الفرزدق:
دَعَونَ بقُضبان الأراكِ، التي جَنى ... لها الركب من نَعمان أيام عَرَّفوا
فمُجْنَ به عَذْبَ الرُّضاب غُروبُهُ ... رِقاقٌ وأعلى حيث رُكِّبنَ أعجفُ
وقال ذو الرُّمّة:
جرى الإسْحِلُ الأحوى بطفلٍ مُطرَّفٍ ... على الغُرّ من أنيابها، فهْيَ نُصَّعُ
وقال آخر:
نَظَرَت بعَينَيْ شادنٍ وتبسَّمَتْ ... بظمياء عن غُرٍّ لهنّ غُروبُ
جرى الإسحِلُ الأحوى عليهنّ أو جرى ... عليهنَّ من ماء الأراك قَضيبُ
وقال جرير:
يجري السواك على أغرَّ كأنه ... بَرَدٌ تحدّر من مُتون غَمامِ
اقرأ السلام على سُعادَ وقُل لها ... يوماً تَرُدّ رسولنا بسلامِ
وقال أيضاً:
إنّ الشقاء وإن ضَنَت بنائلها ... فرعُ البَشام الذي تجلو به البَرَدا
ما في فؤادِكَ من داءٍ يُخامِره ... إلا التي لو رآها راهبٌ سجَدَا
وقال جميل بن مَعْمر:
بثغرٍ قد سقين المِسك منه ... مَساويك البَشام ومن غُروبِ
ومن مجرى غوارب أُقحُوانٍ ... شَتيتِ النبتِ في عامٍ خَصيبِ
وقال آخر:
وغادين بالقُضبان كلَّ مُفّلَّجٍ ... به الظَّلْمُ لم يُفللْ لهنّ غُروبُ
رُضاباً كطعم الشَّهد يجلو مُتونَه ... من الأيك أو غضِّ البَشام قضيبُ
أولئك لولاهنّ ما سُقتُ نِضوةً ... ولا قابلتني في البلاد جَنوبُ
وقال أيضاً:
إذا الريح من نحو الشمال تنسَّمَت ... وَجَدتُ لريّاها على كَبدي بَرْدا
تخيّرتُ من نعمان عودَ أراكةٍ ... لهندٍ ولكن من يُبلِّغه هِندا
وأنشدني أبو علي الحسن بن عُليل الغنزيّ قال: أنشدني الزبير بن بكّار قال: أنشدني أبو مُسلم الكلابي لمهدي بن الملوَّح الكِلابي:
تَبيتُ ليلى وقد كنا نُبَخِّلها، ... قالت: سقى الله ذاك المَرْبَعَ الجَدْبا
يا حبّذا راكباً كنّا نَهَشّ له، ... يُهدي لنا من أراكِ الموسى القُضْبا
وقال القَطامي:
منعَّمةٌ تَجلو بخَوطِ أراكةٍ ... ذرى بَرَدٍ عَذبٍ شَتيتِ المناصبِ
كأنّ فضيضاً من غَريضِ غَمامةٍ ... على ظمأِ جادت به أمُّ غالبِ
لمُستهلِكٍ قد كاد من شِدّة الهوى ... يموت ومن طول العِدات الكَواذبِ
وقال بعض الأعراب، ويُروى للأُمَيلس:
منعَّمةٌ هيفاءُ عَجزاءُ خَدْلَةٌ ... تمسُّ مَثاني شعرها قَصَباً جَزْلا
وتجلو بمِسواك الأراكِ مُفلَّجاً ... عِذابَ الثنايا، لا قِصاراً ولا ثُعْلا
وقال العَطَوي:
عندكنّ الفؤاد والقلب رَهْنٌ ... في يدي ذاتِ دُمْلُجٍ ووِشاحِ
وثَنايا رقيقةٌ كغديرٍ ... من مُدامِ وروضةٌ من أقاحِ
فمساويكها بها كلَّ يومٍ ... في رياضٍ من اصطباحِ الراحِ
وقال عليّ بن الجَهم:
حَجّوا مواليكِ يا بُرهانُ واعتمروا ... وقد أتتكِ الهدايا من مَواليكِ
فأتحفيني مما أتحفوكِ به ... ولا تكن تحفتي غير المَساويكِ
ولست أرضاه حتى ترسلين به ... مما جلا الثغر أو ما جال في فيكِ
ولأبي الطيّب في ذلك:
شهيدي على طيب اللِّثات وريقها ... أنابيبُ عيدان الأراك المُفرَّعِ
كأنّ حَباب الريق حين تمُجُّهُ ... على شُعَبِ المِسواك غير ممزَّعِ
رَشاشُ ذكيِّ المسك شيبَ بعَنبرٍ ... أو الراح من صَفوِ العُقارِ المُشعشَعِ
وقال مروان بن أبي حَفصة:
شِفاءُ الصدى ماءُ المساويك والذي اج ... تنى الريقَ من خَمْلٍ ينازلها طِفلُ
فيا حبّذا ذاك السواك وحبّذا ... به البَرَد العَذبُ الغَريضُ الذي يجلو
وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول:
وإذا سألتُك بعض ريقكِ قلت لي ... أخشى عُقوبةَ مالكِ الأملاكِ
أيجوز عندكِ أن يكون مُتَيَّمٌ ... يَهواكِ عندكِ دون عودِ أراكِ
ماذا عليكِ، جُعلتُ قبلكِ في الثرى، ... من أن أكون خليفةَ المِسواكِ
وهذا باب تطَنَّبَ فيه الشعراء، ويتّسع لها القول في ذكره، وقد مضى من بعضه ما أغنى عن شرح كله، وأنا أصف لك جُملةً من جميل مناقبهم، وما يُؤثَر من حُسن مذاهبهم، إن شاء الله تعالى.















مصادر و المراجع :      

١- الموشى = الظرف والظرفاء

المؤلف: محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)

المحقق: كمال مصطفى

الناشر: مكتبة الخانجي، شارع عبد العزيز، مصر - مطبعة الاعتماد

الطبعة: الثانية، 1371 هـ - 1953 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید