المنشورات

صفة تجميد المَاء

وَذكر ابْن بختويه فِي كتاب الْمُقدمَات صفة لتجميد المَاء فِي غير وقته زعم أَنه إِذا أَخذ من الشب الْيَمَانِيّ الْجيد رَطْل ويسحق جيدا وَيجْعَل فِي قدر فخار جَدِيدَة ويلقي عَلَيْهِ سِتَّة أَرْطَال مَاء صَاف وَيجْعَل فِي تنور ويطين عَلَيْهِ حَتَّى يذهب مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَيبقى الثُّلُث لَا يزِيد وَلَا ينقص فَإِنَّهُ يشْتَد
ثمَّ يرفع فِي قنينة ويسد رَأسهَا جيدا
فَإِذا أردْت الْعَمَل بِهِ أخذت ثلجية جَدِيدَة وفيهَا مَاء صَاف وَاجعَل فِي المَاء عشرَة مَثَاقِيل من المَاء الْمَعْمُول بالشب وَيتْرك سَاعَة وَاحِدَة فَإِنَّهُ يصير ثلجا
وَكَذَلِكَ أَيْضا زعم بعض المغاربة فِي صفة تجميد المَاء فِي الصَّيف قَالَ اعمد إِلَى بزر الْكَتَّان فانقعه فِي خل خمر جيد ثَقِيف فَإِذا جمد فِيهِ فالقه فِي جرة أَو حب مَلِيء مَاء
قَالَ فَإِنَّهُ يجمد مَا كَانَ فِيهِ من المَاء وَلَو أَنه فِي حزيران أَو تموز قَالَ أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك وَكَانَ جالينوس يعتني بِهِ أَبوهُ الْعِنَايَة الْبَالِغَة وَينْفق عَلَيْهِ النَّفَقَة الواسعة وَيجْرِي على المعلمين الجراية الْكَثِيرَة ويحملهم إِلَيْهِ من المدن الْبَعِيدَة
وَكَانَ جالينوس من صغره مشتهيا للْعلم البرهاني طَالبا لَهُ شَدِيد الْحِرْص وَالِاجْتِهَاد وَالْقَبُول للْعلم
وَكَانَ لِحِرْصِهِ على الْعلم يدرس مَا علمه الْمعلم فِي طَرِيقه إِذا انْصَرف من عِنْده حَتَّى يبلغ إِلَى منزله
وَكَانَ الفتيان الَّذين كَانُوا مَعَه فِي مَوضِع التَّعْلِيم يلومونه يَقُولُونَ لَهُ ياهذا يَنْبَغِي أَن تجْعَل لنَفسك وقتا من الزَّمَان تضحك مَعنا فِيهِ وتلعب فَرُبمَا لم يجبهم لشغله بِمَا يتعلمه وَرُبمَا قَالَ لَهُم مَا الدَّاعِي لكم إِلَى الضحك واللعب فَيَقُولُونَ شهوتنا إِلَى ذَلِك فَيَقُول وَالسَّبَب الدَّاعِي لي إِلَى ترك ذَلِك وإيثاري الْعلم بغضي لما أَنْتُم عَلَيْهِ ومحبتي لما أَنا فِيهِ فَكَانَ النَّاس يتعجبون مِنْهُ وَيَقُولُونَ لقد رزق أَبوك مَعَ كَثْرَة مَاله وسعة جاهه ابْنه حَرِيصًا على الْعلم
وَكَانَ أَبوهُ من أهل الهندسة وَكَانَ مَعَ ذَلِك يعاني صناعَة الفلاحة وَكَانَ جده رَئِيس النجارين وَكَانَ جد أَبِيه ماسحا
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي الكيموس الْجيد والرديء إِن أَبَاهُ مَاتَ ولجالينوس من الْعُمر عشرُون سنة
وَهَذَا مَا ذكره فِي ذَلِك الْموضع من حَاله قَالَ إِنَّك إِن أردْت تصديقي أَيهَا الحبيب فصدقني فَإِنَّهُ لَيْسَ لي عِلّة وَلَا وَاحِدَة تضطرني إِلَى الْكَذِب فَإِنِّي رُبمَا غضِبت إِذا رَأَيْت نَاسا كثيرين من أهل الْأَئِمَّة فِي الْحِكْمَة وَفِي الْكَرَامَة قد كذبُوا كثيرا فِي كتبهمْ الَّتِي وصفوا بهَا علم الْأَشْيَاء
فَأَما أَنا فَأَنِّي أَقُول وَلَا أكذب إِلَّا مَا قد عَايَنت بنفسي وجربت وحدي فِي طول الزَّمَان
وَالله يشْهد لي إِنِّي لست أكذب فِيمَا أقص عَلَيْكُم أَنه قد كَانَ لي أَب حَكِيم فَاضل قد بلغ من علم الْأُمُور بلوغا لَيست من وَرَائه غَايَة
أَقُول من علم المساحة والهندسة والمنطق والحساب والنجوم الَّذِي يُسمى أسطرونميا وَكَانَ أهل زَمَانه يعرفونه بِالصّدقِ وَالْوَفَاء وَالصَّلَاح والعفاف
وَبلغ من هَذِه الْفَضَائِل الَّتِي ذكرت مَا لم يبلغهَا أحد من حكماء أهل زَمَانه وعلمائهم
وَكَانَ الْقيم عَليّ وعَلى سياستي وَأَنا حدث صَغِير فحفظني الله على يَدَيْهِ بِغَيْر وجع وَلَا سقم وَإِنِّي لما راهقت أَو زِدْت توجه أبي إِلَى ضَيْعَة لَهُ وخلفني وَكَانَ محبا لعلم الأكرة فَكنت فِي تعليمي وأدبي أفوق أَصْحَابِي المتعلمين عَامَّة وأتقدمهم فِي الْعلم وأتركهم خَلْفي واجتهد لَيْلًا وَنَهَارًا على التَّعْلِيم
فتناولت يَوْمًا مَعَ أَصْحَابِي فَاكِهَة وتملأت بهَا
فَلَمَّا كَانَ أول دُخُول فصل الخريف مَرضت مَرضا حادا فَاحْتَجت إِلَى فصد الْعرق وَقدم وَالِدي عَليّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام وَدخل الْمَدِينَة وَجَاء إِلَيّ فَانْتَهرنِي وذكرني بالتذكير والسياسية والغذاء الَّذِي كَانَ يغذوني بِهِ وَأَنا صبي
ثمَّ أَمرنِي وَتقدم إِلَيّ فَقَالَ اتَّقِ من الْآن وَتحفظ وتباعد من شهوات أَصْحَابك الشَّبَاب وَكَثْرَتهَا وإلحاحهم واقتحامهم
فَلَمَّا كَانَ الْحول الْمقبل حرص أبي بِحِفْظ غذائي وألزمنيه ودبرني أَيْضا وساسني سياسة مُوَافقَة
فَلم أتناول من الْفَاكِهَة إِلَّا الْيَسِير مِنْهَا وَأَنا يَوْمئِذٍ ابْن تسع عشرَة سنة
فَخرجت سنتي تِلْكَ بِلَا مرض وَلَا أَذَى
ثمَّ أَنه نزل بِأبي بعد تِلْكَ السّنة الْمَوْت
فَجَلَست أَيْضا مَعَ أَصْحَابِي وإخواني من أُولَئِكَ الشَّبَاب فَأكلت الْفَاكِهَة وَأَكْثَرت وتملأت أَيْضا فمرضت مَرضا شَبِيها بمرضي الأول فَاحْتَجت أَيْضا إِلَى فصد الْعرق
ثمَّ لزمتني الْأَمْرَاض بعد تِلْكَ السّنة سنينا متتابعة وَرُبمَا كَانَ ذَلِك غبا سنة بعد سنة إِلَى أَن بلغت ثمانيا وَعشْرين سنة
ثمَّ إِنِّي اشتكيت شكاية شَدِيدَة ظَهرت بِي دبيلة فِي الْموضع الَّذِي يجْتَمع فِيهِ الكبد مَعَ ذيافرغما وَهُوَ الْحجاب الحاجز مَا بَين الْأَعْضَاء المتنفسة والأعضاء الفعالة للغذاء فعزمت حِينَئِذٍ على نَفسِي أَن لَا أقرب بعد ذَلِك شَيْئا من الْفَاكِهَة الرّطبَة إِلَّا مَا كَانَ من التِّين وَالْعِنَب وَهَذَانِ إِذا كَانَا نضيجين
وَتركت الْإِكْثَار مِنْهُمَا أَيْضا فَوق الْقدر والطاقة
وَكنت أتناول مِنْهُمَا قدرا وَلَا أجاوزه
وَقد كَانَ لي أَيْضا صَاحب أمس مني فوافقني وواساني فِي الْعَزْم الَّذِي عزمت عَلَيْهِ من ترك الْفَاكِهَة والتباعد فألزمنا أَنْفُسنَا الضمور وتوقي التخم والشبع من الأغذية فبقينا جمعيا مَعًا بِغَيْر وجع وَلَا سقم إِلَى يَوْمنَا هَذَا سنينا كَثِيرَة
ثمَّ لما رَأَيْت ذَلِك عَمَدت إِلَى أخلائي وأخداني ومحبي من إخْوَانِي فألزمتهم الضمور والغذاء بِقدر واعتدال فصحوا وَلم يعرض لَهُم شَيْء مِمَّا أكره إِلَى يومي هَذَا فَمنهمْ من لَزِمته الصِّحَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا خمْسا وَعشْرين سنة وَمِنْهُم من لَزِمته الصِّحَّة خمس عشر وَمِنْهُم من لَزِمته السَّلامَة أقل من ذَلِك وَأكْثر من أَطَاعَنِي وَلزِمَ الْغذَاء على قدر مَا قدرت لَهُ من ذَلِك وتباعد من الْفَاكِهَة الرّطبَة وَغَيرهَا من الأغذية الرَّديئَة الكيموسات
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي علاج التشريح بِأَنَّهُ دخل رُومِية فِي الْمرة الأولى فِي ابْتِدَاء ملك أنطونينوس الَّذِي ملك بعد أدريانوس وصنف كتابا فِي التشريح لبواثيوس المظفر الَّذِي كَانَ واليا على الرّوم عِنْدَمَا أَرَادَ أَن يخرج من مَدِينَة رُومِية إِلَى مدينته الَّتِي يُقَال لَهَا بطولومايس وَسَأَلَهُ أَن يزوده كتابا فِي التشريح
وصنف أَيْضا فِي التشريح مقالات وَهُوَ مُقيم بِمَدِينَة سمرنا عِنْد باليس معلمه الثَّانِي بعد ساطورس تلميذ قوينطوس
وَمضى إِلَى قورنتوس بِسَبَب إِنْسَان آخر مَذْكُور كَانَ تلميذا لقونطس يُقَال لَهُ أفقيانوس
وَسَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة لما سمع أَن هُنَاكَ جمَاعَة مذكورين من تلامذة قونطوس وَمن تلامذة نوميسيانوس
ثمَّ رَجَعَ إِلَى موطنه فرغامس من بِلَاد آسيا ثمَّ سَار إِلَى رُومِية وَشرح برومية قُدَّام بواثيوس وَكَانَ يحضرهُ دَائِما أوذيموس الفيلسوف من فرقة الْمَشَّائِينَ وَقد كَانَ يحضرهم الَّذِي يتَوَلَّى فِي مَدِينَة رُومِية وَهُوَ سرجيوس بولوس فَإِنَّهُ فِي أُمُور الْحِكْمَة كلهَا كَانَ أولى بالْقَوْل وَالْفِعْل جَمِيعًا
وَقَالَ جالينوس فِي بعض كتبه أَنه دخل الْإسْكَنْدَريَّة فِي أول دفْعَة وَرجع عَنْهَا إِلَى فرغامس موطنه وموطن آبَائِهِ وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي فينكس كتبه إِنَّه كَانَ رُجُوعه من رُومِية إِلَى بِلَاده وَقد مضى من عمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي نفي الْغم أَنه احْتَرَقَ لَهُ فِي الخزائن الْعُظْمَى الَّتِي كَانَت للْملك بِمَدِينَة رُومِية كتب كَثِيرَة وأثاث لَهُ قدر بمبلغ عَظِيم
وَكَانَ بعض النّسخ الْمُحْتَرِقَة بِخَط أرسطوطاليس وَبَعضهَا بِخَط أنكساغورس وأندروماخس وَصحح قرَاءَتهَا على معلميه الثِّقَات وعَلى من رَوَاهَا عَن أفلاطون
وسافر إِلَى مدن بعيدَة حَتَّى صحّح أَكْثَرهَا
وَذكر أَن من جملَة مَا ذهب لَهُ فِي هَذَا الْحَرِيق أَيْضا أَشْيَاء كَثِيرَة قد ذكرهَا فِي كِتَابه يطول حصرها وَقَالَ المبشر بن فاتك إِن من جملَة مَا احْتَرَقَ لِجَالِينُوسَ فِي هَذَا الْحَرِيق كتاب روفسي فِي الترياقات والسموم وعلاج المسمومين وتركيب الْأَدْوِيَة بِحَسب الْعلَّة وَالزَّمَان وَإِن من عزته عِنْده كتبه فِي ديباج أَبيض بقز أسود وَأنْفق عَلَيْهِ جملَة كَثِيرَة اقول وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن لِجَالِينُوسَ اخبارا كَثِيرَة جدا وحكايات مفيدة لمن يَتَأَمَّلهَا ونبذا ونوادر مُتَفَرِّقَة فِي خلال كتبه وَفِي اثناء الاحاديث المنقولة عَنهُ وقصصا كَثِيرَة مِمَّا جرى لَهُ فِي مداواة المرضى مِمَّا يدل على قوته وبراعته فِي صناعَة الطِّبّ
لم يتهيأ لي حِينَئِذٍ أَن اذكر جَمِيع ذَلِك فِي هَذَا الْموضع وَفِي عزمي أَن أجعَل لذَلِك كتابا مُفردا يَنْتَظِم كل مَا اجده مَذْكُورا من هَذِه الْأَشْيَاء فِي سَائِر كتبه وَغَيرهَا أَن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقد ذكر جالينوس فِي فينكس كتبه انه صنف مقالتين وصف فيهمَا سيرته
فَأَما العلاجات البديعة الَّتِي حصلت لِجَالِينُوسَ ونوادره فِي تقدمه الْمعرفَة الَّتِي تفرد بهَا عِنْدَمَا تقدم فَأَنْذر بحدوثها فَكَانَت على مَا وَصفه فَأَنا وَجَدْنَاهُ قد ذكر من ذَلِك جملا فِي كتاب مُفْرد كتبه إِلَى أفيجانس ووسمه بِكِتَاب نَوَادِر تقدمة الْمعرفَة وَهُوَ يَقُول فِي كِتَابه هَذَا أَن النَّاس كَانُوا يسموني أَولا لجودة مَا يسمعونه مني فِي صناعَة الطِّبّ الْمُتَكَلّم بالعجائب فَلَمَّا ظَهرت لَهُم المعجزات الَّتِي كَانُوا يجدونها فِي معالجتي سموني الْفَاعِل للعجائب
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي محنه الطَّبِيب الْفَاضِل مَا هَذِه حكايته قَالَ وَلم اعْلَم أحدا مِمَّن بالحضرة الا وَقد علم كَيفَ داوينا الرجل الَّذِي كَانَ يضرّهُ كل شياف يكتحل بِهِ حَتَّى برأَ وَكَانَت فِي عينه قرحَة عَظِيمَة مؤلمة وَكَانَ مَعَ ذَلِك الغشاء العنبي قد نتأ فتأنيت لذَلِك حَتَّى سكن والقرحة حَتَّى اندملت من غير أَن اسْتعْمل فِيهَا شَيْئا من الشيافات فاقتصرت على أَنِّي كنت اهيىء لَهُ فِي كل يَوْم ثلَاثه مياه احدها مَاء قد طبخت فِيهِ حلبة وَالْآخر مَاء قد طبخت فِيهِ وردا وَالْآخر مَاء قد طبخت فِيهِ زعفرانا غير مطحون وَقد رأى جَمِيع الْأَطِبَّاء الَّذين بالحضرة وَأَنا اسْتعْمل هَذِه الْمِيَاه فَلم يقدر أحد مِنْهُم أَن يتَمَثَّل استعمالي اياها وَذَلِكَ لانهم لَا يعْرفُونَ الطَّرِيق وَلَا الْمِقْدَار الَّذِي يحْتَاج ان يقدر فِي كل يَوْم من كل وَاحِد من هَذِه الْمِيَاه على حسب مَا تحْتَاج اليه الْعلَّة وَذَلِكَ ان تَقْدِير مَا كَانَ لتِلْك الْمِيَاه عِنْد شدَّة الوجع وغلبته بِنَوْع وَعند تقور النتوء بِنَوْع وَعند كَثِيرَة الْوَسخ فِي القرحة أَو الزِّيَادَة فِي عفنها بِنَوْع وَلم اسْتعْمل شَيْئا سوى هَذِه الْمِيَاه وَبَلغت الى مَا اردت من سُكُون نتوء الغشاء العنبي الَّذِي كَانَ نتأ وتسكين الوجع وتنقية القرحة فِي وَقت مَا كَانَ الْوَسخ كثيرا فِيهَا وانبات اللَّحْم فِيهَا فِي وَقت مَا كَانَت عميقة واندمالها فِي وَقت مَا امْتَلَأت وَلست اخلو فِي يَوْم من الايام من أَن ابين من مبلغ الحذق بِهَذِهِ الصِّنَاعَة مَا هَذَا مِقْدَاره فِي الْعظم أَو شَبيه بِهِ وَأكْثر من يرى هَذِه من الاطباء لَا يعلم أَيْن هُوَ مَكْتُوب فضلا عَمَّا سوى ذَلِك وَبَعْضهمْ اذ رأى ذَلِك لقبني البديع الْفِعْل وَبَعْضهمْ البديع القَوْل مثل قوم من كبار اطباء رُومِية حَضرتهمْ فِي اول دخلة دَخَلتهَا عِنْد فَتى مَحْمُوم وهم يتناظرون فِي فصده ويختصمون فِي ذَلِك فَلَمَّا أَن طَال كَلَامهم قلت لَهُم أَن خصومتكم فضل والطبيعة عَن قريب ستفجر عرقا ويستفرغ من المنخرين الدَّم الْفَاضِل فِي بدن هَذَا الْفَتى فَلم يَلْبَثُوا أَن رَأَوْا ذَلِك عيَانًا فَبُهِتُوا فِي ذَلِك الْوَقْت ولزموا الصمت واكسبني ذَلِك من قُلُوبهم البغضة ولقبوني البديع القَوْل
حضرت مرّة اخرى مَرِيضا وَقد ظَهرت فِيهِ عَلَامَات بَيِّنَة جدا تدل على الرعاف فَلم اكتف بِأَن انذرت بالرعاف حَتَّى قلت أَنه يكون من الْجَانِب الايمن فلامني من حضر ذَلِك من الاطباء وَقَالُوا حَسبنَا لَيْسَ بِنَا حَاجَة الى أَن تبين لنا فَقلت لَهُم واراكم مَعَ ذَلِك انكم عَن قريب سيكثر اضطرابكم ويشتد وجلكم من الرعاف الْحَادِث لانه سيعسر احتباسه وَذَلِكَ أَنِّي لست ارى طَبِيعَته تقوى على ضبط الْمِقْدَار الي يحْتَاج اليه من الاستفراغ وَالْوُقُوف عِنْده فَكَانَ الامر على مَا وَصفته وَلم يقدر اولئك الاطباء على حبس الدَّم لانهم لم يعلمُوا من ايْنَ ابْتَدَأَ حِين ابتدأت حركته وقطعته أَنا بِأَهْوَن السَّعْي فسماني أُولَئِكَ الاطباء البديع الْفِعْل
وَحكى ايضا من هَذَا الْجِنْس مِمَّا يدل على براعته وقوته فِي صناعَة الطِّبّ فِي كِتَابه هَذَا مَا هَذِه حكايته قَالَ وَقد حضرت مرّة مَعَ قوم من الاطباء مَرِيضا قد اجْتمعت عَلَيْهِ نزلة مَعَ ضيق نفس فَتركت اولئك الاطباء اولا يسقونه الادوية الَّتِي ظنُّوا انه ينْتَفع بهَا فسقوه اولا بعض الادوية الَّتِي تَنْفَع من السعال والنزلة وَهَذِه الادوية تشرب عِنْد طلب الْمَرِيض النّوم وَذَلِكَ انها تجلب طرفا من السبات حَتَّى انها تَنْفَع من بِهِ ارق وسهر فَنَامَ ليلته تِلْكَ باسرها نوما ثقيلا وَسكن عَنهُ السعال وانقطعت عَنهُ النزلة إِلَّا انه جعل يشكو ثقلا يجده فِي آلَة النَّفس واصابه ضيق شَدِيد فِي صَدره وَنَفسه فَرَأى الاطباء عِنْد ذَلِك أَنه لَا بُد من ان يسقوه شَيْئا مِمَّا يعين على نفث مَا فِي رئته فَلَمَّا تنَاول ذَلِك قذف رطوبات كَثِيرَة لزجة ثمَّ أَن السعال عاوده فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة وسهر وَجعل يحس بِشَيْء رَقِيق ينحدر من رَأسه الى حلقه وقصبة رئته فاضطروا فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة ان يسقوه ذَلِك الدَّوَاء المنوم فسكن عَنهُ عِنْد ذَلِك النزلة والسعال والسهرة الا ان نَفسه ازْدَادَ ضيقا وَسَاءَتْ حَاله فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة سوءا فَلم تَجِد الاطباء مَعَه بدا من ان يسقوه بعض الادوية الملطفة الْمُقطعَة لما فِي الرئة فَلَمَّا أَن شرب ذَلِك نقيت رئته إِلَّا انه عرض لَهُ من السعال وَمن كَثْرَة الربو وَمن الارق بسببهما مَا لم يقو على احْتِمَاله فَلَمَّا علمت ان الاطباء قد تحيروا وَلم يبْق عِنْدهم حِيلَة سقيته بالْعَشي دَوَاء لم يهج بِهِ سعالا وَلَا نزلة وجلب لَهُ نوما صَالحا وَسَهل عَلَيْهِ قذف مَا فِي رئتيه وسلكت بذلك الْمَرِيض هَذِه الطَّرِيق فأبرأته من العلتين جَمِيعًا فِي أَيَّام يسيرَة على انهما عِلَّتَانِ متضادتان فِيمَا يظْهر ويتبين من هَذَا لمن يُريدهُ ان من قَالَ من الاطباء انه لَا يُمكن ان يبرأ بدواء مرضان متضادان لم يصب وَأَنا اول من استخرج اسْتِعْمَال هَذِه الادوية وَاسْتِعْمَال الادوية الَّتِي تعالج بهَا القرحة الْعَارِضَة فِي الرئة من قبل نزلة تنحدر اليهما من الرَّأْس وَغير ذَلِك من ادوية كَثِيرَة سأبين طَرِيق اسْتِعْمَالهَا فِي كتاب تركيب الادوية
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي ان الاخيار من النَّاس قد يَنْتَفِعُونَ باعدائهم من شرح حَاله مَا هَذَا نَصه قَالَ فَانِي لم أطلب من اُحْدُ من تلاميذي أُجْرَة وَلَا من مَرِيض من المرضى الَّذين أعالجهم واني اعطي المرضى كل مَا يَحْتَاجُونَ اليه لَا من الادوية فَقَط أَو من الاشربة أَو من الادهان أَو غير ذَلِك مِمَّا أشبهه لكني أقيم عَلَيْهِم من يخدمهم ايضا اذا لم يكن لَهُم خدم واهيىء لَهُم مَعَ ذَلِك ايضا مَا يغتذون بِهِ قَالَ واني وصلت كثيرا من الاطباء باصدقاء كَانُوا لي توجهو فِي عَسَاكِر واطباء أخر ايضا كثير عَددهمْ ضمتهم الى قوم من أهل الْقدر لم آخذ من اُحْدُ مِنْهُم على ذَلِك رشوة اَوْ هَدِيَّة بل كنت اهب لقوم مِنْهُم بعض الآلآت والادوية الَّتِي يَحْتَاجُونَ اليها وَبَعض لم اكن اقْتصر بِهِ على ذَلِك فَقَط لكني كنت أزوده مَا يحْتَاج اليه من النَّفَقَة فِي طَرِيقه
صفة جالينوس واخلاقه

وَقَالَ المبشر بن فاتك ان جالينوس كَانَ اسمر اللَّوْن حسن التخاطيط عريض الاكتاف وَاسع الراحتين طَوِيل الاصابع حسن الشّعْر محبا للأغاني والالحان وَقِرَاءَة الْكتب معتدل المشية ضَاحِك السن كثير الهذر قَلِيل الصمت كثير الْوُقُوع فِي اصحابه كثير الاسفار طيب الرَّائِحَة نقي الثِّيَاب وَكَانَ يحب الرّكُوب والتنزه مداخلا للملوك والرؤساء من غير أَن يتَقَيَّد فِي خدمَة اُحْدُ من الْمُلُوك بل انهم كَانُوا يكرمونه واذا احتاجوا اليه فِي مداواة شَيْء من الامراض الصعبة دفعُوا لَهُ العطايا الْكَثِيرَة من الذَّهَب وَغَيره فِي برئها وَذكر ذَلِك فِي كثير من كتبه وانه كَانَ اذا تطلبه اُحْدُ من الْمُلُوك ان يسْتَمر فِي خدمته سَافر من تِلْكَ الْمَدِينَة الى غَيرهَا لِئَلَّا يشْتَغل بِخِدْمَة الْملك عَمَّا هُوَ بسبيله
وَذكروا ان الاصل كَانَ فِي اسْم جالينوس غالينوس وَمَعْنَاهُ السَّاكِن اَوْ الْهَادِي وَقيل أَن تَرْجَمَة اسْم جالينوس مَعْنَاهُ بالعربي الْفَاضِل
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ فِي كتاب الْحَاوِي انه ينْطَلق فِي اللُّغَة اليونانية ان ينْطق بِالْجِيم غينا وكافا فَيُقَال مثلا جالينوس وغالينوس وكالينوس وكل ذَلِك جَائِز وَقد تجْعَل الالف وَاللَّام لاما مُشَدّدَة فَيكون ذَلِك أصح فِي اليوناينة
أَقُول وَهَذِه فَائِدَة تتَعَلَّق بِهَذَا الْمَعْنى وَهِي حَدثنِي القَاضِي نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد بن الكريدي قَالَ حَدثنِي ابناغاثون المطران بشوبك وَكَانَ اعْلَم اهل زَمَانه بِمَعْرِِفَة لُغَة الرّوم الْقَدِيمَة وَهِي اليونانية ان فِي لُغَة اليونان كل مَا كَانَ من الاسماء الْمَوْضُوعَة من اسماء النَّاس وَغَيرهم فآخرها سين مثل جالينوس وديسقوريدس وانكساغورس وارسطوطاليس وديوجانيس واريباسيوس وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ مثل قَوْلهم قاطيغورياس وباريمينياس وَمثل اسطوخودس واناغالس فان السِّين الَّتِي فِي آخر كل كلمة حكمهَا فِي لُغَة اليونانيين مثل التَّنْوِين فِي لُغَة الْعَرَب الَّذِي هُوَ آخر الْكَلِمَة مثل قَوْلك زيد وَعَمْرو وخَالِد وَبكر وَكتاب وَشَجر فَتكون النُّون الَّتِي تتبين فِي آخر التَّنْوِين مثل السِّين فِي لُغَة اولئك أَقُول وَيَقَع لي أَن من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي لُغَة اليونانيين وَهِي قَلَائِل مَا لَا يكون فِي آخِره سين مثل سقراط وأفلاطن وأغاثاذيمون وأغلوقن وتامور وياغات
وَكَذَلِكَ من غير أَسمَاء النَّاس مثل أنالوطيقيا ونيقوماخيا والريطورية وَمثل جند بيدستر وترياق فَإِن هَذِه الْأَسْمَاء تكون فِي لُغَة اليونانيين لَا يجوز عِنْدهم تنوينها فَتكون بِلَا سين
وَذَلِكَ مثل مَا عندنَا فِي لُغَة الْعَرَب أَن من الْأَسْمَاء مَا لَا ينون وَهِي الْأَسْمَاء الَّتِي لَا تَنْصَرِف مثل إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم وَأحمد ومساجد ودنانير فَتكون هَذِه كتلك
وَالله أعلم
وَقد مدح أَبُو الْعَلَاء بن سُلَيْمَان المعري فِي كتاب الاسْتِغْفَار كتب جالينوس ومدوني الطِّبّ فَقَالَ
(سقيا ورعيا لِجَالِينُوسَ من رجل ... ورهط بقراط غاضوا بعد أَو زادوا)
(فَكل مَا اصلوه غير منتقض ... بِهِ اسْتَغَاثَ أولو سقم وعواد)
(كتب لطاف عَلَيْهِم خف محملها ... لَكِنَّهَا فِي شِفَاء الدَّاء أطواد)
وَمن أَلْفَاظ جالينوس وآدابه ونوادره الْحكمِيَّة مِمَّا ذكره حنين ابْن إِسْحَق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء قَالَ جالينوس
الْهم فنَاء الْقلب وَالْغَم مرض الْقلب
ثمَّ بَين ذَلِك فَقَالَ الْغم بِمَا كَانَ والهم بِمَا يكون
وَفِي مَوضِع آخر الْغم بِمَا فَاتَ والهم بِمَا هُوَ آتٍ فإياك وَالْغَم فَإِن الْغم ذهَاب الْحَيَاة
أَلا ترى أَن الْحَيّ إِذا غم وجبة تلاشى من الْغم
قَالَ فِي صُورَة الْقلب إِن فِي الْقلب تجويفين أَيمن وأيسر
وَفِي التجويف الْأَيْمن من الدَّم أَكثر من الْأَيْسَر
وَفِيهِمَا عرقان يأخذان إِلَى الدِّمَاغ فَإِذا عرض للقلب مَا لَا يُوَافق مزاجه انقبض فانقبض لانقباضه العرقان فتشنج لذَلِك الْوَجْه وألم لَهُ الْجَسَد
وَإِذا عرض لَهُ مَا يُوَافق مزاجه انبسط وانبسط العرقان لانبساطه
قَالَ وَفِي الْقلب عريق صَغِير كالأنبوبة مطل على شغَاف الْقلب وسويدائه فَإِذا عرض للقلب غم انقبض ذَلِك العريق فقطر مِنْهُ دم على سويداء الْقلب وشغافه فيعصر عِنْد ذَلِك من العرقين دم يتغشاه فَيكون ذَلِك عصرا على الْقلب حَتَّى يحس ذَلِك فِي الْقلب وَالروح وَالنَّفس والجسم كَمَا يتغشى بخار الشَّرَاب الدِّمَاغ فَيكون مِنْهُ السكر
وَقيل إِن جالينوس أَرَادَ امتحان ذَلِك فَأخذ حَيَوَانا ذَا حس فغمه أَيَّامًا وَلما ذبحه وجد قلبه ذابلا نحيفا قد تلاشى أَكْثَره
فاستدل بذلك على أَن الْقلب إِذا توالت عَلَيْهِ الغموم وَضَاقَتْ بِهِ الهموم ذبل وَنحل
فحذر حِينَئِذٍ من عواقب الْغم والهم
وَقَالَ لتلاميذه من نصح الْخدمَة نصحت لَهُ المجازاة
وَقَالَ لَهُم لَا ينفع علم من لَا يعقله وَلَا عقل من لَا يَسْتَعْمِلهُ
وَقَالَ فِي كتاب أَخْلَاق النَّفس كَمَا أَنه يعرض للبدن الْمَرَض والقبح فالمرض مثل الصرع والشوصة والقبح مثل الحدب وَتسقط الرَّأْس وقرعه كَذَلِك يعرض للنَّفس مرض وقبح فمرضها كالغضب وقبحها كالجهل
وَقَالَ الْعِلَل تَجِيء على الْإِنْسَان من أَرْبَعَة أَشْيَاء من عِلّة الْعِلَل وَمن سوء السياسة فِي الْغذَاء وَمن الْخَطَايَا وَمن الْعَدو إِبْلِيس وَقَالَ الْمَوْت من أَرْبَعَة أَشْيَاء موت طبيعي وَهُوَ موت الْهَرم وَمَوْت مرض وشهوة مثل من يقتل نَفسه أَو يُقَاد مِنْهُ وَمَوْت الْفجأَة وَهُوَ بَغْتَة
وَقَالَ وَقد ذكر عِنْده الْقَلَم الْقَلَم طَبِيب الْمنطق
وَمن كَلَامه فِي الْعِشْق قَالَ الْعِشْق اسْتِحْسَان ينضاف إِلَيْهِ طمع
وَقَالَ الْعِشْق من فعل النَّفس وَهِي كامنة فِي الدِّمَاغ وَالْقلب والكبد
وَفِي الدِّمَاغ ثَلَاث قوى التخيل وَهُوَ فِي مقدم الرَّأْس والفكر وَهُوَ فِي وَسطه وَالذكر وَهُوَ فِي مؤخره
وَلَيْسَ يكمل أحد اسْم عاشق حَتَّى يكون إِذا فَارق من يعشقه لم يخل من تخيله وفكره وَذكره وَقَلبه وكبده
فَيمْتَنع من الطَّعَام وَالشرَاب باشتغال الكبد وَمن النّوم باشتغال الدِّمَاغ بالتخييل وَالذكر لَهُ والفكر فِيهِ فَيكون جَمِيع مسَاكِن النَّفس قد اشتغلت بِهِ
فَمَتَى لم تشتغل بِهِ وَقت الْفِرَاق لم يكن عَاشِقًا
فَإِذا لقِيه خلت هَذِه المساكن
قَالَ حنين بن إِسْحَق وَكَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم جالينوس من كتم داءه أعياه شفاؤه
وَمن كَلَام جالينوس مِمَّا ذكره أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم قَالَ جالينوس
لن تنَلْ واحلم تنبل وَلَا تكن معجبا فتمتهن
وَقَالَ العليل الَّذِي يَشْتَهِي أَرْجَى من الصَّحِيح الَّذِي لَا يَشْتَهِي
وَقَالَ لَا يمنعك من فعل الْخَيْر ميل النَّفس إِلَى الشَّرّ
وَقَالَ رَأَيْت كثيرا من الْمُلُوك يزِيدُونَ فِي ثمن الْغُلَام المتأدب بالعلوم والصناعات وَفِي ثمن الدَّوَابّ الفاضلة فِي أجناسها ويغفلون أَمر أنفسهم فِي التأدب حَتَّى لَو عرض على أحدهم غُلَام مثله مَا اشْتَرَاهُ وَلَا قبله
فَكَانَ من أقبح الْأَشْيَاء عِنْدِي أَن يكون الْمَمْلُوك يُسَاوِي الْجُمْلَة من المَال وَالْمَالِك لَا يجد من يقبله مجَّانا وَقَالَ كَانَ الْأَطِبَّاء يُقِيمُونَ أنفسهم مقَام الْأُمَرَاء
والمرضى مقَام المأمورين الَّذين لَا يتعدون مَا حد لَهُم فَكَانَ الطِّبّ فِي أيامهم أنجع فَلَمَّا حَال الْأَمر فِي زَمَاننَا فَصَارَ العليل بِمَنْزِلَة الْأَمِير والطبيب بِمَنْزِلَة الْمَأْمُور وخدم الْأَطِبَّاء رضَا الإعلاء وَتركُوا خدمَة أبدانهم فَقل الِانْتِفَاع بهم
وَقَالَ أَيْضا كَانَ النَّاس قَدِيما يَجْتَمعُونَ على الشَّرَاب والغناء فيتفاضلون فِي ذكر مَا تعمله الْأَشْرِبَة فِي الأمزجة والألحان فِي قُوَّة الْغَضَب وَمَا يرد كل وَاحِد منهامن أَنْوَاعه وهم الْيَوْم إِذا اجْتَمعُوا فَإِنَّمَا يتفاضلون بِعظم الأقداح الَّتِي يشربونها
وَقَالَ من عود من صباه الْقَصْد فِي التَّدْبِير كَانَت حركات شهواته معتدلة فَأَما من اعْتَادَ أَن لَا يمْنَع شهواته مُنْذُ صباه وَلَا يمْنَع نَفسه شَيْئا مِمَّا تَدعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِك يبْقى شَرها
وَذَلِكَ عَن كل شَيْء يكثر الرياضة فِي الْأَعْمَال الَّتِي تخصه يقوى وكل شَيْء يسْتَعْمل السّكُون يضعف
وَقَالَ من كَانَ من الصّبيان شَرها شَدِيد القحة فَلَا يَنْبَغِي أَن يطْمع فِي صَلَاحه الْبَتَّةَ وَمن كَانَ مِنْهُم شَرها وَلم يكن وقحا فَلَا يَنْبَغِي أَن يؤيس من صَلَاحه وَيقدر أَنه إِن تأدب يكون إنْسَانا عفيفا
وَقَالَ الْحيَاء خوف المستحي من نقص يَقع بِهِ عِنْد من هُوَ أفضل مِنْهُ
وَقَالَ يتهيأ للْإنْسَان أَن يصلح أخلاقه إِذا عرف نَفسه فَإِن معرفَة الْإِنْسَان نَفسه هِيَ الْحِكْمَة الْعُظْمَى وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان لإفراط محبته لنَفسِهِ بالطبع يظنّ بهَا من الْجَمِيل مَا لَيست عَلَيْهِ
حَتَّى أَن قوما يظنون بِأَنْفسِهِم أَنهم شجعاء وكرماء وَلَيْسوا كَذَلِك
فَأَما الْعقل فيكاد أَن يكون النَّاس كلهم يظنون بِأَنْفسِهِم التَّقَدُّم فِيهِ وَأقرب النَّاس إِلَى أَن يظنّ ذَلِك بِنَفسِهِ أقلهم عقلا
وَقَالَ الْعَادِل من قدر على أَن يجور فَلم يفعل والعاقل من عرف كل وَاحِد من الْأَشْيَاء الَّتِي فِي طبيعة الْإِنْسَان مَعْرفَتهَا على الْحَقِيقَة
وَقَالَ الْعجب ظن الْإِنْسَان بِنَفسِهِ أَنه على الْحَال الَّتِي تحب نَفسه أَن يكون عَلَيْهَا من غير أَن يكون عَلَيْهَا
وَقَالَ كَمَا أَن من ساءت حَال بدنه من مرض بِهِ وَهُوَ ابْن خمسين سنة لَيْسَ يستسلم وَيتْرك بدنه حَتَّى يفْسد ضيَاعًا بل يلْتَمس أَن يَصح بدنه وَإِن لم يفده صِحَة تَامَّة كَذَلِك يَنْبَغِي لنا أَن لَا نمتنع من أَن نزيد أَنْفُسنَا صِحَة على صِحَّتهَا وفضيلة على فضيلتها وَإِن كُنَّا لَا نقدر أَن نلحقها بفضيلة نفس الْحَكِيم
وَقَالَ يتهيأ للْإنْسَان أَن يسلم من أَن يظنّ بِنَفسِهِ أَنه أَعقل النَّاس إِذا قلد غَيره امتحان كل مَا يَفْعَله فِي كل يَوْم وتعريفه صَوَاب فعله من خطئه ليستعمل الْجَمِيل ويطرح الْقَبِيح
وَرَأى رجلا تعظمه الْمُلُوك لشدَّة جِسْمه فَسَأَلَ عَن أعظم مَا فعله فَقَالُوا أَنه حمل ثورا مذبوحا من وسط الهيكل حَتَّى أخرجه إِلَى خَارج
فَقَالَ لَهُم فقد كَانَت نفس الثور تحمله وَلم تكن لَهَا فِي حمله فَضِيلَة
ونقلت من كَلَام جالينوس أَيْضا من مَوَاضِع أخر قَالَ جالينوس
أَن العليل يتروح بنسيم أرضه كَمَا تتروح الأَرْض الجدبة ببل الْقطر
وَسُئِلَ عَن الشَّهْوَة فَقَالَ بلية تعير لَا بَقَاء لَهَا
وَقيل لَهُ لم تحضر مجَالِس الطَّرب والملاهي قَالَ لأعرف القوى والطبائع فِي كل حَال من منظر ومسمع
وَقيل لَهُ مَتى يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يَمُوت قَالَ إِذا جهل مَا يضرّهُ مِمَّا يَنْفَعهُ
وَمن كَلَامه أَنه سُئِلَ عَن الأخلاط فَقيل لَهُ مَا قَوْلك فِي الدَّم قَالَ عبد مَمْلُوك وَرُبمَا قتل العَبْد مَوْلَاهُ قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي الصَّفْرَاء فَقَالَ كلب عقور فِي حديقة
قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي البلغم قَالَ ذَلِك الْملك الرئيس كلما أغلقت عَلَيْهِ بَابا فتح لنَفسِهِ بَابا
قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي السَّوْدَاء قَالَ هَيْهَات تِلْكَ الأَرْض إِذا تحركت تحرّك مَا عَلَيْهَا
وَمن ذَلِك أَيْضا قَالَ أَنا ممثل لَك مِثَالا فِي الأخلاط الْأَرْبَعَة فَأَقُول إِن مثل الصَّفْرَاء وَهِي الْمرة الْحَمْرَاء كَمثل امْرَأَة سليطة صَالِحَة تقية
فَهِيَ تؤذي بطول لسانها وَسُرْعَة غَضَبهَا إِلَّا أَنَّهَا ترجع سَرِيعا بِلَا غائلة
وَمثل الدَّم كَمثل الْكَلْب الْكَلْب فَإِذا دخل دَارك فعاجله أما بِإِخْرَاجِهِ أَو قَتله
وَمثل البلغم إِذا تحرّك فِي الْبدن مثل ملك دخل بَيْتك وَأَنت تخَاف ظلمه وجوره وَلَيْسَ يُمكن أَن تخرق بِهِ وتؤذيه بل يجب أَن ترفق بِهِ وتخرجه
وَمثل السَّوْدَاء فِي الْجَسَد مثل الْإِنْسَان الحقود الَّذِي لَا يتَوَهَّم فِيهِ بِمَا فِي نَفسه ثمَّ يثب وثبة فَلَا يبْقى مَكْرُوها إِلَّا ويفعله وَلَا يرجع إِلَّا بعد الْجهد الصعب
وَمن تمثيلاته الطريفة أَيْضا قَالَ
الطبيعة كالمدعي وَالْعلَّة كالخصم والعلامات كالشهود والقارورة والنبض كالبينة وَيَوْم البحران كَيَوْم الْقَضَاء والفصل وَالْمَرِيض كالمتوكل والطبيب كَالْقَاضِي
وَقَالَ فِي تَفْسِيره لكتاب أَيْمَان أبقراط وَعَهده كَمَا أَنه لَا يصلح اتِّخَاذ التمثال من كل حجر وَلَا ينْتَفع بِكُل بَاب فِي محاربة السبَاع كَذَلِك أَيْضا لَا نجد كل إِنْسَان يصلح لقبُول صناعَة الطِّبّ
لكنه يَنْبَغِي أَن يكون الْبدن وَالنَّفس مِنْهُ ملائمين لقبولها
















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید