المنشورات

ابْن أَثَال

كَانَ طَبِيبا مُتَقَدما من الْأَطِبَّاء المتميزين فِي دمشق نَصْرَانِيّ الْمَذْهَب
وَلما ملك مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان دمشق اصطفاه لنَفسِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَكَانَ كثير الافتقاد لَهُ والاعتقاد فِيهِ والمحادثة مَعَه لَيْلًا وَنَهَارًا
وَكَانَ ابْن أَثَال خَبِيرا بالأدوية المفردة والمركبة وقواها وَمَا مِنْهَا سموم قواتل وَكَانَ مُعَاوِيَة يقربهُ لذَلِك كثيرا
وَمَات فِي أَيَّام مُعَاوِيَة جمَاعَة كَثِيرَة من أكَابِر النَّاس والأمراء من الْمُسلمين بالسم
وَمن ذَلِك حَدثنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ ابْن الْكَرِيم قَالَ حَدثنَا أَبُو غَالب مُحَمَّد بن الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن مَيْمُون عَن أبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن محمويه الشَّافِعِي اليزدي عَن أبي سعد أَحْمد بن عبد الْجَبَّار بن أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصَّيْرَفِي الْبَغْدَادِيّ عَن أبي غَالب مُحَمَّد بن أَحْمد بن سهل بن بَشرَان النَّحْوِيّ الوَاسِطِيّ عَن أبي الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن دِينَار الْكَاتِب عَن أبي الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب قَالَ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالأغاني الْكَبِير أَخْبرنِي عمي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن الْحَرْث الخزاز قَالَ حَدثنَا الْمَدَائِنِي عَن شيخ أهل الْحجاز عَن زيد بن رَافع مولى الْمُهَاجِرين خَالِد بن الْوَلِيد عَن أبي ذِئْب عَن أبي سُهَيْل أَن مُعَاوِيَة لما أَرَادَ أَن يظْهر العقد ليزِيد قَالَ لأهل الشَّام إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كَبرت سنه ورق جلده ودق عظمه واقترب أَجله يُرِيد أَن يسْتَخْلف عَلَيْكُم فَمن ترَوْنَ فَقَالُوا عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد
فَسكت وأضمرها
ودس ابْن أَثَال النَّصْرَانِي الطَّبِيب إِلَيْهِ فَسَقَاهُ سما فَمَاتَ وَبلغ ابْن أَخِيه خَالِد بن المُهَاجر ابْن خَالِد بن الْوَلِيد خَبره وَهُوَ بِمَكَّة وَكَانَ أَسْوَأ النَّاس رَأيا فِي عَمه لِأَن أَبَاهُ المُهَاجر كَانَ مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ بصفين وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد مَعَ مُعَاوِيَة
وَكَانَ خَالِد بن المُهَاجر على رَأْي أَبِيه هاشمي الْمَذْهَب
فَلَمَّا قتل عَمه عبد الرَّحْمَن مر بِهِ عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ لَهُ يَا خَالِد أتدع لِابْنِ أَثَال نقى أوصال عمك بِالشَّام وَأَنت بِمَكَّة مسيل إزارك تجره وتخطر فِيهِ متخائلا فحمي خَالِد ودعى مولى لَهُ يُقَال لَهُ نَافِع فَأعلمهُ الْخَبَر وَقَالَ لَهُ لَا بُد من قتل ابْن أَثَال
وَكَانَ نَافِع جلدا شهما فَخَرَجَا حَتَّى قدما دمشق وَكَانَ ابْن أَثَال يتمسى عِنْد مُعَاوِيَة فَجَلَسَ لَهُ فِي مَسْجِد دمشق إِلَى اسطوانة وَجلسَ غُلَامه إِلَى أُخْرَى حَتَّى خرج
فَقَالَ خَالِد لنافع إياك أَن تعرض لَهُ أَنْت فَإِنِّي أضربه
وَلَكِن احفظ ظَهْري واكفني من ورائي
فَإِن رَأَيْت شَيْئا يُرِيدنِي من ورائي فشأنك
فَلَمَّا حاذاه وثب إِلَيْهِ فَقتله
وثار إِلَيْهِ من كَانَ مَعَه فصاح بهم نَافِع فانفرجوا
وَمضى خَالِد وَنَافِع وتبعهما من كَانَ مَعَه فَلَمَّا غشوهما حملا عَلَيْهِم فَتَفَرَّقُوا حَتَّى دخل خَالِد وَنَافِع زقاقا ضيقا ففاتا النَّاس
وَبلغ مُعَاوِيَة الْخَبَر فَقَالَ هَذَا خَالِد بن المُهَاجر انْظُرُوا الزقاق الَّذِي دخل فِيهِ
ففتش عَلَيْهِ وَأتي بِهِ فَقَالَ لَهُ لَا جَزَاك الله من زائر خيرا قتلت طبيبي فَقَالَ قتلت الْمَأْمُور وَبَقِي الْآمِر
فَقَالَ لَهُ عَلَيْك لعنة الله أما وَالله لَو كَانَ تشهد مرّة وَاحِدَة لقتلتك بِهِ
أَمَعَك نَافِع قَالَ لَا قَالَ بلَى وَالله وَمَا اجترأت إِلَّا بِهِ
ثمَّ أَمر بِطَلَبِهِ فَوجدَ فَأتي بِهِ فَضرب مائَة سَوط وَلم ينح خَالِدا بِشَيْء أَكثر من أَن حَبسه وألزم بني مَخْزُوم دِيَة ابْن أَثَال اثْنَي عشر ألف دِرْهَم أَدخل بَيت المَال مِنْهَا سِتَّة آلَاف وَأخذ سِتَّة آلَاف فَلم يزل ذَلِك يجْرِي فِي دِيَة الْمعَاهد حَتَّى ولي عمر بن عبد الْعَزِيز فَأبْطل الَّذِي يَأْخُذهُ السُّلْطَان لنَفسِهِ وَأثبت الَّذِي يدْخل بَيت المَال
قَالَ لما حبس مُعَاوِيَة خَالِد بن المُهَاجر قَالَ فِي السجْن (إِمَّا خطاي تقاربت ... مشي الْمُقَيد فِي الْحصار)
(فِيمَا أَمْشِي فِي الأباطح ... يقتفي أثري إزَارِي)
(دع ذَا وَلَكِن هَل ترى ... نَارا تشب بِذِي مرار)
(مَا أَن تشب لقرة ... بالمصطلين وَلَا قتار)
(مَا بَال ليلك لَيْسَ ينقص ... طولهَا طول النَّهَار)
(أتقاصر الْأَزْمَان أم ... غَرَض الْأَسير من الإسار) الْكَامِل
قَالَ فبلغت أبياته مُعَاوِيَة فَأَطْلقهُ فَرجع إِلَى مَكَّة
فَلَمَّا قدمهَا لَقِي عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ لَهُ أما ابْن أَثَال فقد قتلته
وهذاك ابْن جرموز نقى أوصال الزبير بِالْبَصْرَةِ فاقتله إِن كنت ثائرا
فَشَكَاهُ عُرْوَة إِلَى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَرْث بن هِشَام فأقسم عَلَيْهِ أَن يمسك عَنهُ فَفعل
أَقُول كَانَ الزبير بن الْعَوام مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل فَقتله ابْن جرموز وَلذَلِك قَالَ خَالِد بن المُهَاجر لعروة بن الزبير عَن قتل ابْن جرموز لِأَبِيهِ يعيره بذلك
وَمِمَّا يُحَقّق هَذَا أَن عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل زَوْجَة الزبير بن الْعَوام قَالَت ترثيه لما قَتله ابْن جرموز
(غدر ابْن جرموز بِفَارِس بهمة ... يَوْم اللِّقَاء وَكَانَ غير معرد)
(يَا عَمْرو لَو نبهته لوجدته ... لَا طائشا رعش الْجنان وَلَا الْيَد)
(الله رَبك إِن قتلت لمسلما ... وَجَبت عَلَيْك عُقُوبَة الْمُتَعَمد)
(إِن الزبير لذُو بلَاء صَادِق ... سمح سجيته كريم المشهد)
(كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عَنْهَا طرادك يَا ابْن فقع القردد)
(فَاذْهَبْ فَمَا ظَفرت يداك بِمثلِهِ ... فِيمَا مضى مِمَّا يروح وَيَغْتَدِي) الْكَامِل
وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب الْأَمْثَال إِن مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان كَانَ خَافَ أَن يمِيل النَّاس إِلَى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد فاشتكى عبد الرَّحْمَن فَسَقَاهُ الطَّبِيب شربة عسل فِيهَا سم فَأَحْرَقتهُ
فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ مُعَاوِيَة لَا جد إِلَّا مَا اقعص عَنْك من تكره
قَالَ وَقَالَ مُعَاوِيَة أَيْضا حِين بلغه أَن الأشتر سقِِي شربة عسل فِيهَا سم فَمَاتَ إِن لله جُنُودا مِنْهَا الْعَسَل
ونقلت من تَارِيخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ قَالَ لما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ بعث عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ الأشتر واليا على مصر بعد قتل مُحَمَّد بن أبي بكر وَبلغ مُعَاوِيَة مسيره فَدس إِلَى دهقان بالعريش فَقَالَ أَن قتلت الأشتر فلك خراجك عشْرين سنة فلطف لَهُ الدهْقَان فَسَأَلَ أَي الشَّرَاب أحب إِلَيْهِ فَقيل الْعَسَل
فَقَالَ عِنْدِي عسل من عسل برقة فسمه وَأَتَاهُ بِهِ فشربه فَمَاتَ
وَفِي تَارِيخ الطَّبَرِيّ أَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا مَاتَ مسموما فِي أَيَّام مُعَاوِيَة وَكَانَ عِنْد مُعَاوِيَة كَمَا قيل دهاء فَدس إِلَى جعدة بنت الْأَشْعَث بن قيس وَكَانَت زَوْجَة الْحسن رَضِي الله عَنهُ شربة وَقَالَ لَهَا إِن قتلت الْحسن زَوجتك بِيَزِيد
فَلَمَّا توفّي الْحسن بعثت إِلَى مُعَاوِيَة تطلب قَوْله فَقَالَ لَهَا فِي الْجَواب أَنا أضن بِيَزِيد
وَقَالَ كثير يرثي الْحسن رَضِي الله عَنهُ
(يَا جعد أبكيه وَلَا تسأمي ... بكاء حق لَيْسَ بِالْبَاطِلِ)
(أَن تستري الْمَيِّت على مثله ... فِي النَّاس من حاف وَمن ناعل) السَّرِيع
وَقَالَ عوَانَة بن الحكم لما كَانَ قبل موت الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام كتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان ابْن الحكم عَامله على الْمَدِينَة إِن أقبل الْمطِي فِيمَا بيني وَبَيْنك بِخَبَر الْحسن بن عَليّ
قَالَ فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى كتب مَرْوَان بِمَوْتِهِ
وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا دخل على مُعَاوِيَة أجلسه مَعَه على سَرِيره فَأذن مُعَاوِيَة للنَّاس فَأخذُوا مجَالِسهمْ وَجَاء ابْن عَبَّاس فَلم يمهله مُعَاوِيَة أَن يسلم حَتَّى قَالَ يَا ابْن عَبَّاس هَل أَتَاك موت الْحسن بن عَليّ قَالَ لَا قَالَ مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ قد أَتَانَا مَوته
فَاسْتَرْجع ابْن عَبَّاس وَقَالَ إِن مَوته يَا مُعَاوِيَة لَا يزِيد فِي عمرك وَلَا يدْخل عمله مَعَك فِي قبرك
وَقد بلينا بأعظم فَقدنَا مِنْهُ جده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجبر الله مصابنا وَلم يُهْلِكنَا بعده
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة اقعد يَا ابْن عَبَّاس فَقَالَ مَا هَذَا بِيَوْم قعُود
وَأظْهر مُعَاوِيَة الشماتة بِمَوْت الْحسن رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ قثم ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك (أصبح الْيَوْم ابْن هِنْد شامتا ... ظَاهر النخوة أَن مَاتَ حسن)
(رَحْمَة الله عَلَيْهِ أَنه ... طَال مَا أشجى ابْن هِنْد وَأذن)
(وَلَقَد كَانَ عَلَيْهِ عمره ... عدل رضوى وثبير وحضن)
(وَإِذا أقبل حَيا رَافعا ... صَوته والصدر يغلي بالإحن)
(فارتع الْيَوْم ابْن هِنْد آمنا ... إِنَّمَا يغمص بالعير السّمن)
(وَاتَّقِ الله وأحدث تَوْبَة ... إِن مَا كَانَ كشيء لم يكن) الرمل











مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید