المنشورات
يزِيد بن زيد
يزِيد بن زيد بن يوحنا بن أبي خَالِد متطبب الْمَأْمُون كَانَ جيد الْعلم حسن المعالجة مَوْصُوفا بِالْفَضْلِ
وَكَانَ قد خدم الْمَأْمُون بصناعة الطِّبّ وخدم أَيْضا إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والإنعام الغزير والعناية الْبَالِغَة والجامكية الوافرة
وَكَانَ يُقَال لَهُ أَيْضا يزِيد بور
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَن ثُمَامَة الْعَبْسِي القعقاعي وَهُوَ أَبُو عُثْمَان بن ثُمَامَة صَاحب الْجَبَّار اعتل من خلفة تطاولت بِهِ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَسَأَلَنِي الرشيد عَن علته وَأَيْنَ بلغت بِهِ فأعلمته إِنِّي لَا أعرف لَهُ خَبرا فأظهر إنكارا لقولي ثمَّ قَالَ رجل غَرِيب من أهل الشّرف قد رغب فِي مصاهرة أَهله عبد الْملك بن مَرْوَان وَقد ولدت أُخْته خليفتين الْوَلِيد وَسليمَان ابْني عبد الْملك وَقد رغب أَبوك فِي مصاهرته فَتزَوج أُخْته ورغبت أَنا أَخُوك فِي مثل ذَلِك مِنْهُ فَتزوّجت ابْنَته وَهُوَ مَعَ ذَلِك صَحَابِيّ لجدك وَأَبِيك ولأختك وأخيك فَلَا توجب على نَفسك عيادته ثمَّ أَمرنِي بالمصير إِلَيْهِ لعيادته فَنَهَضت وَأخذت معي متطببي يزِيد وصرت إِلَيْهِ
فَدخلت على رجل توهمت أَنه فِي آخر حشاشة بقيت من نَفسه وَلم أر فِيهِ للمسألة موضعا
فَأمر يزِيد متطببي بإحضار متطببه فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأخْبرهُ أَنه يقوم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مائَة مجْلِس
وَأَقْبل يزِيد يسْأَل المتطبب عَن بَاب بَاب من الْأَدْوِيَة الَّتِي تشرب وَعَن السفوفات والحقن فَلم يذكر لذَلِك المتطبب شَيْئا إِلَّا أعلمهُ أَنه قد عالجه بِهِ فَلم ينجع فِيهِ
فَوَجَمَ عِنْد ذَلِك يزِيد مِقْدَار سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ قد بَقِي شَيْء وَاحِد أَن عمل بِهِ رَجَوْت أَن ينْتَفع بِهِ وَإِن لم ينجع فِيهِ فَلَا علاج لَهُ
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَرَأَيْت ثُمَامَة قد قويت نَفسه عِنْدَمَا سمع من يزِيد مَا سمع ثمَّ قَالَ وَمَا ذَلِك الشَّيْء الَّذِي بَقِي متعت بك قَالَ لَهُ شربة اصطمخيقون
فَقَالَ ثُمَامَة أحب أَن أرى هَذِه الشربة حَتَّى أَشمّ رائحتها
فَأخْرج يزِيد من كمه منديلا فِيهِ أدوية وَفِيه شربة اصطمخيقون
فَأمر بهَا ثُمَامَة فَحلت ثمَّ أَتَى بهَا فَرمى بهَا فِي فِيهِ وابتلعها
فوَاللَّه مَا وصلت إِلَى جَوْفه حَتَّى سَمِعت مِنْهُ أصواتا لم أَشك فِي إِنِّي لم أبلغ بَاب دَاره إِلَّا وَقد مَاتَ
فَنَهَضت ومتطببي معي وَمَا أَعقل غما
وَأمرت خَادِمًا لي كَانَ يحمل معي الاسطرلاب إِذا ركبت بالْمقَام فِي دَاره وتعرف خبر مَا يكون مِنْهُ
فَتخلف فوافاني كتاب الْخَادِم بعد الزَّوَال يعلمني أَنه قَامَ من بعد طُلُوع الشَّمْس إِلَى زَوَالهَا خمسين مرّة فَقلت تلفت وَالله نفس ثُمَامَة
ثمَّ وافى كتاب الْخَادِم بعد غرُوب الشَّمْس أَنه قَامَ مُنْذُ زَوَال الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا عشْرين مَجْلِسا
ثمَّ صَار إِلَى الْغُلَام مَعَ طُلُوع الشَّمْس فَذكر أَنه لم يكن مِنْهُ مُنْذُ غرُوب الشَّمْس إِلَى انتصاف اللَّيْل إِلَّا ثَلَاثَة مجَالِس وَلم يكن مِنْهُ إِلَى وَقت طُلُوع الْفجْر شَيْء
فركبت إِلَيْهِ بعد أَن صليت الْغَدَاة فَوَجَدته نَائِما وَكَانَ لَا ينَام فأنتبه لي فَسَأَلته عَن خَبره فَأَعْلمنِي أَنه لم يزل فِي وجع من جَوْفه مَانع لَهُ النّوم والقرار مُنْذُ أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة حَتَّى أَخذ تِلْكَ الشربة
فَلَمَّا انْقَطع فعل الشربة انْقَطع عَنهُ ذَلِك الوجع وَأَنه لم يشته طَعَاما مُنْذُ ذَلِك الْوَقْت وَأَنه مَا يبصرني فِي وقته من غَلَبَة الْجُوع عَلَيْهِ
وَسَأَلَ الْإِذْن فِي الْأكل فَأذن لَهُ يزِيد فِي أكل أسفيدباجه قد طبخت من فروج كسكري سمين ثمَّ اتباعها زيرباجة فَفعل ذَلِك
وصرت إِلَى الرشيد فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ من أَمر ثُمَامَة
فأحضر المتطبب وَقَالَ لَهُ وَيحك كَيفَ أقدمت على إسقائه حب الأصطمخيقون فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا رجل كَانَ فِي جَوْفه كيموس فَاسد فَلم يكن يدْخل فِي جَوْفه دَوَاء وَلَا غذَاء إِلَّا أفْسدهُ ذَلِك الكيموس
وَكَانَ كلما فسد من تِلْكَ الْأَدْوِيَة والأغذية صَار مَادَّة لذَلِك الْفساد فَكَانَت الْعلَّة لهَذَا السَّبَب تزداد
فَعلمت أَنه لَا علاج لَهُ إِلَّا بدواء قوي يقوى على قلع ذَلِك الكيموس
وَكَانَ أقوى الْأَشْيَاء الَّتِي يُمكن أَن يسقاها الأصطمخيقون فَقلت لَهُ فِيهِ الَّذِي قلت
وَلم أقدم أَيْضا على القَوْل أَنه يُبرئهُ لَا محَالة وَإِنَّمَا قلت بَقِي شَيْء وَاحِد فَإِن هُوَ لم يَنْفَعهُ فَلَا علاج لَهُ
وَإِنَّمَا قلت ذَلِك لِأَنِّي رَأَيْت الرجل عليلا قد أضعفته الْعلَّة وأذهبت أَكثر قواه
فَلم آمن عَلَيْهِ التّلف أَن شربه وَكنت أَرْجُو لَهُ الْعَافِيَة بشربه إِيَّاه
وَكنت أعلم أَنه إِن لم يشربه أَيْضا تلف
فَاسْتحْسن الرشيد مَا كَانَ من قَوْله وَوَصله بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم
ثمَّ عَاد الرشيد ثُمَامَة وَقَالَ لَهُ لقد أقدمت من شرب ذَلِك الدَّوَاء على أَمر عَظِيم وخاصة إِذْ كَانَ المتطبب لم يُصَرح لَك بِأَن فِي شربه الْعَافِيَة
فَقَالَ ثُمَامَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كنت قد يئست من نَفسِي وَسمعت المتطبب يَقُول إِن شرب هَذَا الدَّوَاء رَجَوْت أَن يَنْفَعهُ فاخترت الْمقَام على الرَّجَاء وَلَو لَحْظَة على الْيَأْس من الْحَيَاة فَشَربته وَكَانَت فِي ذَلِك خيرة من الله عَظِيمَة
أَقُول وَهَذِه الْحِكَايَة تناسب مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه جَاءَ إِلَيْهِ رجل من الْعَرَب فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن أخي قد غلب عَلَيْهِ الْخَوْف وداويناه وَلم يَنْقَطِع عَنهُ بِشَيْء فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أطْعمهُ عسل النَّحْل)
فراح وأطعمه إِيَّاه فَزَاد الإسهال فَأتى إِلَيْهِ وَقَالَ يَا رَسُول الله كثر الإسهال بِهِ من وَقت أطعمته الْعَسَل فَقَالَ (أطْعمهُ الْعَسَل)
فأطعمه فَزَاد الإسهال أَكثر
فَشَكا ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (أطْعمهُ أَيْضا الْعَسَل)
فأطعمه أَيْضا فِي الْيَوْم الثَّالِث فتقاصر الإسهال وَانْقطع بِالْكُلِّيَّةِ
فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فَقَالَ (صدق الله وكذبت بطن أَخِيك)
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ذَلِك لكَونه كَانَ قد علم أَن فِي خمل معدة الْمَرِيض رطوبات لزجة غَلِيظَة قد أزلقت معدته فَكلما مر بهَا شَيْء من الْأَدْوِيَة القابضة لم يُؤثر فِيهَا والرطوبات بَاقِيَة على حَالهَا والأطعمة تزلق عَنْهَا فَيبقى الإسهال دَائِما
فَلَمَّا تنَاول الْعَسَل جلا تِلْكَ الرطوبات وأحدرها فَكثر الإسهال أَولا بخروجها وتوالى ذَلِك إِلَى أَن نفدت تِلْكَ الرطوبات بأسرها فَانْقَطع الإسهال وَبرئ الرجل
فَقَوله صدق الله يَعْنِي بِالْعلمِ الَّذِي أوجده الله عز وَجل لنَبيه وعرفه بِهِ وَقَوله وكذبت بطن أَخِيك يَعْنِي مَا كَانَ يظْهر من بَطْنه من الإسهال وكثرته بطرِيق الْعرض وَلَيْسَ هُوَ مرض حَقِيقِيّ فَكَانَت بَطْنه كَاذِبَة فِي ذَلِك
مصادر و المراجع :
١- عيون الأنباء في طبقات
الأطباء
المؤلف: أحمد بن
القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى:
668هـ)
المحقق: الدكتور
نزار رضا
الناشر: دار
مكتبة الحياة - بيروت
21 يوليو 2024
تعليقات (0)