المنشورات

رشيد الدّين ابْن الصُّورِي

هُوَ أَبُو الْمَنْصُور بن أبي الْفضل بن عَليّ الصُّورِي قد اشْتَمَل على جمل الصِّنَاعَة الطبية واطلع على محاسنها الجلية والخفية
وَكَانَ أوحدا فِي معرفَة الْأَدْوِيَة المفردة وماهياتها وَاخْتِلَاف أسمائها وصفاتها وَتَحْقِيق خواصها وتأثيراتها ومولده فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة صور وَنَشَأ بهَا
ثمَّ انْتقل عَنْهَا واشتغل بصناعة الطِّبّ على الشَّيْخ موفق الدّين عبد الْعَزِيز وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ وتميز فِي صناعَة الطِّبّ وَأقَام بالقدس سنتَيْن
وَكَانَ يطب فِي البيمارستان الَّذِي كَانَ فِيهِ
وَصَحب الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس الجياني وَكَانَ شَيخا فَاضلا فِي الْأَدْوِيَة المفردة متفننا فِي عُلُوم أخر كثير الدّين محبا للخير
فَانْتَفع بِصُحْبَتِهِ لَهُ وَتعلم مِنْهُ أَكثر مَا يفهمهُ
واطلع رشيد الدّين بن الصُّورِي أَيْضا على كثير من خَواص الْأَدْوِيَة المفردة حَتَّى تميز على كثير من أَرْبَابهَا وأربى على سَائِر من حاولها واشتغل بهَا
هَذَا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْمُرُوءَة الَّتِي لَا مزِيد عَلَيْهَا
والعصبية الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا والمعارف الْمَذْكُورَة والشجاعة الْمَشْهُورَة
وَكَانَ قد خدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْعَادِل أَبَا بكر بن أَيُّوب فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة لما كَانَ الْملك الْعَادِل مُتَوَجها إِلَى الديار المصرية واستصحبه مَعَه من الْقُدس وَبَقِي فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَادِل رَحمَه الله
ثمَّ خدم بعده لوَلَده الْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر وَكَانَ مكينا عِنْده وجيها فِي أَيَّامه
وَشهد مَعَه مصافات عدَّة مَعَ الفرنج لما كَانُوا نازلوا ثغر دمياط وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْمُعظم رَحمَه الله وَملك بعده وَلَده الْملك النَّاصِر دَاوُد بن الْملك الْمُعظم فأجراه على جامكيته وَرَأى لَهُ سَابق خدمته وفوض إِلَيْهِ رياسة الطِّبّ وَبَقِي مَعَه فِي الْخدمَة إِلَى أَن توجه الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك فَأَقَامَ هُوَ بِدِمَشْق وَكَانَ لَهُ مجْلِس للطب وَالْجَمَاعَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ ويشتغلون بالصناعة الطبية
وحرر أدوية الترياق الْكَبِير وَجَمعهَا على مَا يَنْبَغِي فَظهر نَفعه وعظمت فَائِدَته
وَكَانَ قد صنع مِنْهُ شَيْئا كثيرا فِي أَيَّام الْملك الْمُعظم
وَتُوفِّي رشيد الدّين بن الصُّورِي رَحمَه الله يَوْم الْأَحَد أول شهر رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِدِمَشْق
وَكَانَ رشيد الدّين ابْن الصُّورِي قد أهْدى إِلَيّ تأليفا لَهُ يحتوي على فَوَائِد ووصايا طبية فَقلت وكتبت بهَا إِلَيْهِ فِي رِسَالَة
(لعلم رشيد الدّين فِي كل مشْهد ... منار علا يأتمه كل مهتدي)
(حَكِيم لَدَيْهِ المكرمات بأسرها ... توارثها عَن سيد بعد سيد)
(حوى الْفضل عَن آبَائِهِ وجدوده ... فَذَاك قديم فِيهِ غير مُجَدد)
(تفرد فِي ذَا الْعَصْر عَن كل مشبه ... بِخَير صِفَات حصرها لم يجدد)
(أَتَتْنِي وَصَايَاهُ الحسان الَّتِي حوت ... بنثر كَلَام كل فصل منضد)
(وَأهْدى إِلَى قلبِي السرُور وَلم يزل ... بإحسانه يسدي لمثلي من يَد)
(وجدت بهَا مَا أرتجيه وإنني ... بهَا أبدا فِيمَا أحاول مقتدي)
(وَلَا غرو من علم الرشيد وفضله ... إِذا كَانَ بعد الله فِي الْعلم مرشدي) الطَّوِيل 
أدام الله أَيَّام الْحَكِيم الأوحد الأمجد الْعَامِل الْفَاضِل الْكَامِل الرئيس رشيد الدُّنْيَا وَالدّين مُعْتَمد الْمُلُوك والسلاطين خَالِصَة أَمِير الْمُؤمنِينَ بلغه فِي الدَّاريْنِ نِهَايَة سؤله وأمانيه وكبت حَسَدْته وأعاديه
وَلَا زَالَت الْفَضَائِل مخيمة بفنائه والفواضل صادرة مِنْهُ إِلَى أوليائه
والألسن مجتمعة على شكره وثنائه وَالصِّحَّة مَحْفُوظَة بِحسن مراعاته والأمراض زائلة بتدبيره ومعالجته
الْمَمْلُوك يُنْهِي مَا يجده من الأشواق إِلَى خدمته والتأسف على الْفَائِت من مشاهدته
ووصلت المشرفة الْكَرِيمَة الَّتِي وجد بهَا نِهَايَة الأمل والإرشاد إِلَى المطالب الطبية الجامعة للْعلم وَالْعَمَل
وَقد جعلهَا الْمَمْلُوك أصلا يعْتَمد عَلَيْهِ ودستورا يرجع إِلَيْهِ
لَا يخليها من فكره وَلَا يخل بِمَا تتضمنه فِي سَائِر عمره
وَلَيْسَ للمملوك مَا يُقَابل بِهِ إِحْسَان مَوْلَانَا إِلَّا الدُّعَاء الصَّالح وَالثنَاء الَّذِي يكْتَسب من محاسنه النشر الْعطر الفائح
وَكَيف لَا أشكر وأنشر محَاسِن من لَا أجد فَضِيلَة إِلَّا بِهِ وَلَا أنال رَاحَة إِلَّا بِسَبَبِهِ
فَالله يتَقَبَّل من الْمَمْلُوك صَالح أدعيته وَيجْزِي مَوْلَانَا كل خير على كَمَال مروءته إِن شَاءَ
وأنشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخضر الْحلَبِي لنَفسِهِ يمدح الْحَكِيم رشيد الدّين ابْن الصُّورِي ويشكره على إِحْسَان أسداه إِلَيْهِ
(سرى طيفها والكاشحون هجود ... فَبَاتَ قَرِيبا والمزار بعيد)
(فيا عجبا من طيفها كَيفَ زارني ... وَمن دونه بيد تهول وبيد)
(وَكَيف يزور الطيف طرف مسهد ... لطيب الْكرَى عَن ناظريه صدود)
(وَفِي قلبه نَار من الوجد والأسى ... لَهَا بَين أحناء الضلوع وقود)
(وَقد أخلق السقم المبرح والضنا ... لِبَاس اصْطِبَارِي والغرام جَدِيد)
(وتالله لَا عَاد الخيال وَإِنَّمَا ... تخيله الأفكار لي فَيَعُود)
(فيا لائمي كف الملام وَلَا تزد ... فَمَا فَوق وجدي والغرام مزِيد)
(ولي كبد حرى وطرف مسهد ... وقلب يحب الغانيات عميد)
(أَلا فِي سَبِيل الْحبّ من مَاتَ صبوة ... وَمن قتلته الغيد فَهُوَ شَهِيد)
(وَلم تَرَ عَيْني مثل أَسمَاء خلة ... تضن بوصلي والخيال يجود)
(تجدّد أشجاني بهَا وصبابتي ... معاهد أقوت باللوى وعهود)
(رعى الله بيضًا من لَيَال وصلتها ... ببيض حسان والمفارق سود)
(وَبت وجخ اللَّيْل مرخ سدوله ... أضم غصون البان وَهِي قدود)
(وأرشف رَاحا روقتها مباسم ... واقطف وردا أنبتته خدود)
(إِلَى أَن تبدى الصُّبْح غير مذمم ... وَزَالَ ظلام اللَّيْل وَهُوَ حميد)
(وَكَيف أَذمّ الصُّبْح أَو لَا أوده ... وَإِن ريع مودود بِهِ وودود)
(وكل صباح فِيهِ للعين حظوة ... بِوَجْه رشيد الدّين وَهُوَ سعيد)
(هُوَ الْعَالم الصَّدْر الْحَكِيم وَمن لَهُ ... كَلَام يضاهي الدّرّ وَهُوَ نضيد)
(رَئِيس الْأَطِبَّاء ابْن سينا وَقَبله ... حنين تلاميذ لَهُ وَعبيد)
(وَلَو أَن جالينوس حَيا بعصره ... لَكَانَ عَلَيْهِ يبتدي وَيُعِيد)
(فَقل لبني الصُّورِي قد سدتم الورى ... وَمَا النَّاس إِلَّا سيد ومسود)
(وَمَا حزتم أرث الْعلَا عَن كَلَالَة ... كَذَلِك آبَاء لكم وجدود)
(فيا عَالم الدُّنْيَا وَيَا علم الْهدى ... وَيَا من بِهِ للمكرمات وجود)
(وَيَا من لَهُ ربع من الْفضل آهل ... وَقصر معال بالثناء مشيد)
(ودوح من الْإِحْسَان أثمر بالمنى ... وظل على اللاجي إِلَيْهِ مديد)
(وَيَا من بِهِ العَاصِي الجموح أَطَاعَنِي ... وذل لي الْجَبَّار وَهُوَ عنيد)
(فمعقل عزي فِي حماه ممنع ... حُصَيْن وعيشي فِي ذراه رغيد)
(وَمن راشني معروفه واصطناعه ... وَقَامَ بأَمْري والأنام قعُود)
(وَأحسن بِي فعلا فأحسنت قَائِلا ... وجاد فَفِي مدحي علاهُ أجيد)
(فَعِنْدَ نداه حَاتِم الْجُود باخل ... وَعِنْدِي لبيد فِي المديح بليد)
(تصدى لكسب الْحَمد من كل وجهة ... وَلِلْقَوْمِ عَن كسب الثَّنَاء صدود)
(لَهُ ظلّ ذِي فضل على كل لاجئ ... مفيء وَعلم بالأمور مُفِيد)
(وَعرف مَتى مَا يُبْدِهِ فاح عرفه ... وجود يَد مَا عز مِنْهُ وجود)
(تعبد كل الْخلق بالجود فانثنت ... لإحسانه الْأَحْرَار وَهِي عبيد)
(فكم مادح قد لَاذَ مِنْهُ بمانح ... فأنجح قصد عِنْده وقصيد)
(فأمسى وللحسنى عَلَيْهِ دَلَائِل ... وأضحى وللنعمى عَلَيْهِ شُهُود)
(فَكيف أَخَاف الحادثات وصرفها ... ورأي رشيد الدّين فِي سديد)
(وَمن فَضله لي ساعد ومساعد ... وَمن جاهه لي عدَّة وعديد)
(وَإِنِّي لأرجو أَن ستكثر حسدي ... على نيل مَا أَرْجُو بِهِ وَأُرِيد)
(وَمَا الصنع إِلَّا مَا سيعقبه الْغنى ... وَيكثر فِيهِ غائظ وحسود)
(إِذا كَانَ لي من فَضله واصطناعه ... عتاد فعزي مَا حييت عتيد)
(وَغير عَجِيب أَن يكون بِقَصْدِهِ ... لمثلي إِلَى نيل السُّعُود سعود)
(أَقُول لمن يَرْجُو سواهُ من الورى ... رويدك أَن النجح مِنْك بعيد)
(أتقصد أوشالا وتترك لجة ... تمد بهَا للمكرمات مدود)
(وَمن بِأبي الْمَنْصُور أصبح لائذا ... فقد قارنته بالنجاح سعود)
(فيا كعبة الآمال يَا دِيمَة الندى ... وَيَا من بِهِ روض الرَّجَاء مجود)
(وَمن عَبده يَوْم السماحة حَاتِم ... كَمَا عِنْد مدحي فِي علاهُ عبيد)
(أياديك عِنْدِي لَا أقوم بشكرها ... فَمَا فَوق مَا أولت يداك مزِيد)
(فَلم يصف لي لَوْلَا أياديك مشرب ... وَلَا اخضر لي لَوْلَا انتجاعك عود)
(فجدي بقصدي بَات دَارك مقبل ... ونجمي بتردادي إِلَيْك سعيد)
(فَلَا زلت بالعيد السعيد مهنأ ... تهنيك من بعد الْوُفُود وُفُود)
(فَمَا لِذَوي الْحَاجَات غَيْرك مقصد ... وَلَا لبني الآمال عَنْك محيد) الطَّوِيل
ولرشيد الدّين الصُّورِي من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة وَهَذَا الْكتاب بَدَأَ بِعَمَلِهِ فِي أَيَّام الْملك الْمُعظم وَجعله باسمه واستقصى فِيهِ ذكر الْأَدْوِيَة المفردة وَذكر أَيْضا أدوية اطلع على مَعْرفَتهَا ومنافعها لم يذكرهَا المتقدمون
وَكَانَ يستصحب مصورا وَمَعَهُ الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها فَكَانَ يتَوَجَّه رشيد الدّين بن الصُّورِي إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي بهَا النَّبَات مثل جبل لبنان وَغَيره من الْمَوَاضِع الَّتِي قد اخْتصَّ كل مِنْهَا بِشَيْء من النَّبَات فيشاهد النَّبَات ويحققه ويريه للمصور فَيعْتَبر لَونه وَمِقْدَار ورقه وأغصانه وأصوله ويصور بحسبها ويجتهد فِي محاكاتها ثمَّ أَنه سلك أَيْضا فِي تَصْوِير النَّبَات مسلكا مُفِيدا وَذَلِكَ أَنه كَانَ يرى النَّبَات للمصور فِي أبان نَبَاته وطراوته فيصوره ثمَّ يرِيه إِيَّاه أَيْضا وَقت كَمَاله وَظُهُور بزره فيصوره تلو ذَلِك ثمَّ يرِيه إِيَّاه أَيْضا فِي وَقت ذواه ويبسه فيصوره
فَيكون الدَّوَاء الْوَاحِد يُشَاهِدهُ النَّاظر إِلَيْهِ فِي الْكتاب وَهُوَ على أنحاء مَا يُمكن أَن يرَاهُ فِي الأَرْض فَيكون تَحْقِيقه لَهُ أتم ومعرفته لَهُ أبين
الرَّد على كتاب التَّاج للغاوي فِي الْأَدْوِيَة المفردة
تعاليق لَهُ وفرائد ووصايا طبية كتب بهَا إِلَيّ

















مصادر و المراجع :      

١- عيون الأنباء في طبقات الأطباء

المؤلف: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ)

المحقق: الدكتور نزار رضا

الناشر: دار مكتبة الحياة - بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید