المنشورات

البرُّ وألوانه

قال علماؤنا ما خلاصتُه: إنّ أصل معنى البر: السَّعة، ومنه البَرُّ - بفتح الباء - مقابل البحر، ثم اشتُقّ منه البِرّ بمعنى التوسُّع في فعل الخير، وكلّ فعل مرضيٍّ. . . وهكذا أطلقوه على التوسّع في الإحسان إلى الناس، وهو لُبابُ البرّ؛ وعلى صلة الرحم، وهي عنوان البِرّ؛ وعلى التقوى، وهي جِماع البر، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}، وقال لبيد:
وما البِرُّ إلا مُضمراتٌ من التّقى
وورد البرُّ في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف وفي شعر العرب مقابلاً للإثم - والإثم: الشرُّ وكل فعل غير مرضيٍ مما يؤثم - قال عزّ وجلّ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. واقترانه بالتقوى يدلّ على أن البرّ بسبيلٍ من التقوى، ورُوي أنّ سائلاً سأل المصطفى صلوات الله عليه عن البِرّ والإثم، فقال: (البرُّ ما سكنت إليه نفسُك واطمأنّ به قلبك، والإثمُ ما حاكَ في نفسك وتردَّد في صدرك، وإن أفتاك الناس)، أو كما قال. حاك في نفسك: أي أثر فيها ورسخ وحزَّ وقدح، وقوله: وإن أفتاك الناس: أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً
وقال زهير بن أبي سُلمى:
والإثمُ مِن شرِّ ما يُصالُ به ... والبِرُّ كالغَيْثِ نَبْتُهُ أَمِرُ
ما يُصال به: ما يُفتخر به، وأمِرُ: كثير مبارك ومن أسماء الله البَرُّ - بفتح الباء - ومعناه الواسع الخير، وقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، فمعناه: لن تنالوا برَّ الله، أي لن تنالوا خيري الدنيا والآخرة حتى تنفقوا مما تحبون، أما خيرُ الدنيا فهو ما ييسره الله للعبد من الهدى والنعمة، وأما خيرُ الآخرة فهو الفوز بالنعيم الدائم في الجنة، أو تقول:
لن تنالوا حقيقة البرِّ - أي الخير - حتى تنفقوا مما تحبون. . . والأبرار: الأخيار، جمع بَرّ، وقد قوبلت كلمةُ الأبرار بالفُجّار في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}. وإن الفُجّار لفي جحيم - والفجار: الذين ينبعثون في الشرور والآثام - وحج مبرور: مقبولٌ يُجازى بالبر، أي الثواب، أي خير الآخرة؛ وبَرّ في يمينه أي صدق، أي كان خيّراً فيه بهذا الصدق.
وبعد فكل ما أوردوه من معاني البر فإلى الخير مردُّه. . .
ولهم في البر مطلقاً، أي الخير غير مقيد بلون من ألوانه، عبقريات وذخائر، فمن ذلك قول الحطيئة:
مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جوازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ
جوازيه: جمع جازية اسمُ مصدرٍ للجزاء، كالعافية، أي لا يعدم جزاءً عليه قال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل العرب بيتاً قطُّ أصدق من بيت الحطيئة هذا، فقيل له: فقول طرفة بن العبد:
سَتُبْدِي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ 

فقال: مَن يأتيك بها ممن زودت أكثر، وليس بيت مما قالته الشعراء إلا وفيه مطعن، إلا قول الحطيئة هذا. ويُروى أن كعباً الحِبْرَ - المشهور بكعب الأحبار - لما سمع هذا البيت قال: والذي نفسي بيده: إنّ هذا البيت لمكتوبٌ في التوراة. . . وقال عبيد بن الأبرص:
والخيْرُ يَبْقَى وإنْ طالَ الزمانُ به ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوْعَيْتَ مِن زادِ
يقال: أوعيتَ الزادَ والمتاعَ: إذا جعلته في الوعاء.
وقال أبو العتاهية:
لَيَعْلَمَنَّ الناسُ أنَّ التُّقَى ... والبِرَّ كانا خيرَ ما يُذخَرُ
وقبله قال الأخطل - ورواه المبرّد في الكامل للخليل بن أحمد واضع علم العروض -:
وإذا افتَقَرْتَ إلى الذّخائرِ لَم تَجِدْ ... ذُخْراً يكون كصالحِ الأعمالِ
روى صاحب الأغاني: أن هشام بن عبد الملك لما سمع الأخطل وهو يقول هذا البيت قال: هنيئاً لك أبا مالك هذا الإسلام! فقال الأخطل: يا أمير المؤمنين، ما زلت مسلماً في ديني؛ وقبل هذا البيت في ديوان الأخطل:
والناسُ هَمُّهُمُ الحياةُ وما أرَى ... طُولَ الحياةِ يَزيدُ غيرَ خَبالِ
الخبال: الفساد، أو هو لون من الجنون. . .
وقال أحمد شوقي في نهج البردة: - وهذه الأبياتُ يصحُّ أن تذكر في باب التقوى وفي باب الدّنيا وفي الزهد، كما يصحُّ أن تذكر في هذا الموضع -:
يا نفسُ دُنياكِ تُخْفِي كُلَّ مُبْكِيةٍ ... وإنْ بَدَا لكِ منها حُسنُ مُبْتَسمِ
فُضِّي بتَقواكِ فاها كلّما ضَحِكَتْ ... كما يُفَضُّ أذَى الرَّقْشاءِ بالثَّرَمِ
لا تَحْفِلِي بجنَاها أو جِنايتِها ... الموتُ بالزَّهْرِ مِثلُ الموتِ بالفَحَمِ 

صلاحُ أمْرِكَ للأخلاقِ مَرْجِعُهُ ... فقَوِّمِ النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ
والنفْسُ مِن خيْرِها في خيرِ عافيةٍ ... والنفسُ من شرِّها في مَرْتَعٍ وَخِمِ
المبتسم: يريد الابتسام، أو موضع الابتسام، وهو الثغر. والرقشاء من الحيّات: المنقطة بالسواد والبياض. وأذى الرقشاء: سُمُّها. والثرم: كسر السن من أصلها. والجنى: ما يُجنى من الشجرة ويقطف من ثمرها، يقول في هذا البيت: إن سعادة الدنيا وشقاءها بمنزلة سواء، وكلاهما ألم غير أن أحد الألمين ينزل بساحة النفس سافراً غير متنكر - وهو جنايتها أي آلامها - والآخر - وهو جناها أي لذاتها - يتسرب إليها من أبواب غفلتها فيتجمل ويخلب حتى ينال منها، إذ أن من ورائه السمّ ناقعاً، فمثلهما في ذلك مثل الموت بالفحم والموت بالزهر، كلاهما موت، وإن كان هذا من أثر الاختناق بأرج الزهر، وذاك من دخن الفحم. والمرتع: من رتعت الماشية: أكلت ما شاءت، والمرتع: مكان الرتوع، والوخم: الرديء الوبيء.
وقال المعري:
وَلْتَفْعِلِ النَّفسُ الجميلَ لأنَّهُ ... خيْرٌ وَأَحْسَنُ لا لأجْلِ ثَوابِها
يقول المعري: إن فعل كل ما هو جميل خير وأحسن من فعل ما ليس بجميل، ولو لم يجن المرء من وراء الجميل وفعله إلا أنه خير وأحسن وأسمى وأرفع؛ لكان في ذلك الغناء كله، أما فعل الجميل ونصب عين فاعله ذلك الثواب الذي سيجازى به، فإن هذا إسفاف بالإنسانية إلى الحضيض الأوهد، ويعد من الأعمال التي يرفعها الله إلى أسفل، وجملة القول: إنه غير لائق بالكمال والمثل الأعلى، أليس من كان هذا شأنهم إنما يتاجرون الله
الذي يعلم السر وأخفى، والذي هو جميل يحب الجمال! وسترى في باب التقوى كثيراً من عبقرياتهم في هذا المعنى - معنى فعل الخير حُباً في الخير، وولوعاً بالحق والجمال والمثالية الكامنة فيه.
ومما رُوي لنا من أحاديث سيدنا رسول الله في هذا الباب قوله صلوات الله عليه: (رأيت الجنة والنار فلم أرَ مثل الخير والشر). . . قال ابن الأثير في النهاية: أي لم أر مثلهما لا يميز بينهما فيبالغ في طلب الجنة والهرب من النار. . . أقول: ولعل الأظهر أن يكون المعنى: لم أر شيئاً يكون وصلة إلى دخول الجنة مثل الخير، ولم أر شيئاً يكون سبباً في دخول النار مثل الشر. . . هذا، وإن أبى الملحدون وأشباه الملحدين إلا أن يؤولوا الجنة بأنها الهناءة وغبطة الروح التي يشعر بها الأخيار البررة ويراحون لها في هذه الحياة، والنار بأنها الشقاوة التي يعانيها الأشرار الفجرة، ويتسعر لهيبها في أحناء ضلوعهم، فهم وما يختارون ويحلولي لهم، إذ أن هذا - أي سعادة الخيّر في الدنيا وشقاوة الشرير فيها - حق وصحيح في ذاته، وإن لم يك مراداً لأنبياء الله ورسلِه بالجنة والنار، حين يريدون الجنة والنار بمعناهما المعروف، على أن الإسلام على ذلك يعتد بالسّعادة والشّقاوة في الدنيا كما أنّه يعتد بهما فيما بعد الموت. . . وفي الحديث أيضاً: (خيركم من يُرْجى خيره ويؤمن شرّه، وشرُّكم من لا يُرجى خيرُه ولا يؤمن شرُّه). . . وقال صلوات الله عليه: 

(خير الناس خيرُهم لنفسه) ومعناه: إذا جامل الناس جاملوه وإذا أحسن إليهم كافؤوه بمثله وأما الحديث: (خيركم خيركم لأهله)، فهو حث على صلة الرحم، وسيأتي. . . ومما يؤثر من أحاديث سيدنا رسول الله في هذا الباب قوله صلوات الله عليه: (شرُّ الناس من خافه الناس اتقاء شره) ومثل هذا القول تبكيت للشرير، وأنه وإن ظفر بما يظفر به من أغراض هذه الدنيا فهو خاسر دامر وكان من دعاء سيدنا رسول الله: إن الخيرَ بيديكَ والشَّرّ ليس إليك يريد: أنَ الشر لا يُتقرب به إليك ولا يُبتغى به وجهك، أو أن الشر لا يَصعد إليك وإنما يصعد إليك الطيِّب من القول والعمل، كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. وفي هذا الدعاء إرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله والدعاء، وأن تضاف إليه محاسن الأشياء دون مساويها. . . ومن كلمة لعلي بن أبي طالب: إن للخير والشر أهلاً، فمهما تركتموه منهما كفاكُموه أهلُه يقول رضي الله عنه: إنْ عنَّ لك باب من أبواب
الخير وتركته فسوف يكفيكَه بعض الناس ممن جعله الله أهلاً للخير، وإن عنَّ لك باب من أبواب الشر فتركتَه فسوف يكفيكَه بعض الناس ممن جعلهم الله أهلاً للشر وأذى الناس، فاختر لنفسك أيما أحبّ إليك: أن تحظى بالمحمدة والثواب وتفعل ما إن تركته فعله غيرُك وحظي بحمده وثوابه، أو أن تتركه، وأيما أحب إليك؛ أن تشقى بالذم عاجلاً والعقاب آجلاً وتفعل ما إن تركته كفاكه غيرك وبلغت غرضك منه على يد غيرك، أو أن تفعله؛ وإذن فجدير بالعاقل أن يؤثر فعل الخير وترك الشر ما وجد إلى ذلك سبيلا.
ومن قولهم في أوصاف البَرَرة الأخيار: فلان نقيُّ الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم؛ إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق، يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة عن الشر، مدلولة على سبيل البر. . . ووصف أعرابيٌّ رجلاً بلونٍ من ألوان البِرّ وبالألمعية والذكاء والحصافة والأناة قال: كان - والله - الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين، لم أرَ أحداً كان أرتقَ لخلل رأيٍ منه، ولا أبعد مسافة رويةٍ ومراد طرفٍ، إنما يرمي بهمته حيث أشار إليه الكرم، وما زال - والله - يتحسى مرارة أخلاق الإخوان ويسقيهم عذوبة أخلاقه. . .
كان الفهم منه ذا أذنين: يريد أنه كان يعي ويتفطن لما يرى ويسمع فطنة أوفت على الغاية، إذ أنها فطنة مضاعفة، فكأن له أذنين. أما قوله: والجواب ذا لسانين: فإنما يريد قوة العارضة واللسن، وهذا غير قولهم: فلان ذو وجهين وذو لسانين، يريدون: النفاق والذبذبة. ورتق الفتق: أصلحه، والمراد: المكان من راد يرود: إذا جاء وذهب، ويتحسى: يقال حسا الماء: شربه، وتحساه: إذا شرب في مهلة، وهو هنا مجاز.
ومن كلمة لابن المقفع يصف الرجل يتلاقى البِرُّ في برديه بألوانٍ شتى من المثل العليا وأخلاق السادة، في أسلوب بديع - وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة منسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه -: كان لي أخٌ في الله، كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجاً من سلطان بطنه؛ فلا يتشهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجاً من سلطان فرجه؛ فلا يدعو إليه مؤنة، ولا يستخف إليه رأياً ولا بدناً، وكان لا يتأثر عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة، وكان خارجاً من سلطان لسانه؛ فلا يتكلم بما لا يعلم ولا يماري فيما علم. وكان خارجاً من سلطان الجهالة؛
فلا يقدم أبداً إلا على ثقة بنفسه، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بزَّ القائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جد الجدُّ فهو الليث عادياًً، وكان لا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراءٍ، ولا يدلي بحجة، حتى يرى قاضياً فهماً وشهوداً عدولاً، وكان لا يلوم أحداً فيما يكون العذر في مثله حتى يعلم ما عذره، وكان لا يشكو وجعه إلا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير صاحباً إلا أن يرجو منه النصيحة وكان لا يتبرم ولا يتسخط، ولا يتشكى ولا يتشهى، ولا ينتقم من العدو ولا يغفل عن الولي، ولا يخص نفسه بشيء دون إخوانه، من اهتمامه وحيلته وقوته. . . فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع. . . قوله كان لي أخ إلخ. فليس يعني أخاً بعينه ولكن هذا كلام خارج مخرج المثل، وعادة العرب جارية بذلك مثل قولهم في الشعر: فقلت لصاحبي، ويا صاحبيّ: وقوله: فلا يتشهى ما لا يجد، فإن ذلك لعمري من سقوط المروءة. قال الأحنف بن قيس: جنِّبوا مجالسنا ذكر تشهِّي الأطعمة وحديث النكاح، ومن طرف الجاحظ ما رواه عن نفسه: جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة، فقال واحد: أنا أشتهي سكباجة كثيرة الزعفران، وقال آخر: وأنا أشتهي هريسة كثيرة الدارصيني. . . وإلى جانبنا امرأة بيننا وبينها بئر الدار، فضربت الحائط وقالت: أنا حامل، فأعطوني ملء هذه الغضارة - الصحفة - من طبيخكم، فقال ثمامة بن الأشرس: جارتنا هذه تشم رائحة الأماني! وقوله: وكان ضعيفاً مستضعفاً: يريد: لَيِّن الجانب. موطَّأ الأكناف. . . وقرع رجل باب بعض الخيرين من السلف، في ليل، فقال لجاريته: أبصري من القارع، فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال أنا صديق مولاك، فقال الرجل: قولي له: والله إنك لصديق؟ فقالت له ذلك، فقال: 

والله إني لصديق، فنهض الرجل وبيده سيف وكيس يسوق جارية، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لا بك ما ساءك، فإني قد قسمت أمرك بين صديق: فهذا المال، وبين عدو: فهذا السيف، أو مشوق: فهذه الجارية. فقال الرجل: لله بلادك، ما رأيت مثلك. . . أقول: هذه لعمري هي أخلاق السادة النبلاء ذوي البر والمروءة والوفاء والحزم والظرف، وكون - وجود - أمثال هؤلاء من ذوي الإنسانية العالية هو الذي يحسن ظننا بالحياة ويجمّلها في أعيننا، ويجعلها محتملة مطاقة، لا كما نرى اليوم. . وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت يصف رجلاً قليل الخير أي لا خير فيه:
أبى لك فِعْلَ الخيْرِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ ... ونَفْسٌ أضَاقَ اللهُ بالخير باعَها
إذا ما أرادته على الخيرِ مَرَّةً ... عصاها وإن هَمَّتْ بِشَرٍّ أطاعها
ومن قولهم في قليل الخير:
هُوَ فِي الخيْرِ قَطُوفٌ ... وَهْوَ في الشَّرِّ وَسَاعُ
القطوف من الإنسان والحيوان: البطيء المتقارب الخطو، ووساع: واسع الخطو سريع السير ومن قولهم في المتساويين في الخير والشر. هما كفرسي رهان، وهذا في الخير، وأما في الشر فيقال: هما كحماري العبادي. والعبادي: رجل من العباد، وهم قوم من قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية فأنفوا أن يتسموا بالعبيد وقالوا: نحن العباد، وقد نزلوا بالحيرة ومنهم عدي بن زيد العبادي الشاعر المشهور. أما هذا العبادي فيروى أنه قيل له - أي حماريك شرٌّ؟ فقال: هذا، ثم هذا!. 

وقال الأشعر الرقبان - وهو شاعر جاهلي من بني أسد - يخاطب ابن عمٍ له يسمى رضوان، يصفه بالشر واللؤم والنذالة والفسولة:
بِحَسْبِكَ في القومِ أنْ يَعلَموا ... بأنَّكَ فِيهم غَنيٌّ مُضِرْ
وقَدْ عَلِمَ المَعْشَرُ الطارِقُوكَ ... بأنَّكَ للضَّيْفِ جُوعٌ وَقُرْ
إذا ما انْتَدى القَوْمُ لمْ تأتِهِم ... كأنَّكَ قَدْ وَلَدَتْكَ الحُمُرْ
مَسِيخٌ مَليخٌ كَلَحْمِ الحُوَار ... فَلا أَنْتَ حُلْوٌ ولا أَنْتَ مُرْ
قوله: غنيٌّ مُضر، فالمُضِرّ: الذي له ضَرّة من المال، وهي القطعة من المال والإبل والغنم، أو المال الكثير، كما هنا، وانتدى القوم: اجتمعوا في ناديهم، والمسيخ: الذي لا طعم له، والمليخ مثله، وخص به بعض اللغويين الحوار الذي ينحر حين يقع من بطن أمه فلا يوجد له طعم، وقال ابن الأعرابي: المليخ من الرجال: الذي لا تشتهي أن تراه عينك فلا تجالسه ولا تسمع أذنك حديثه، والحوار: ولد الناقة ساعة تضعه. . . ومما يحسن إيراده في هذا الباب للبسته واشتباهه قول عمر رضي الله عنه - وقد قيل له: فلان لا يعرف الشر - فقال: ذاك أوقع له فيه، إذ أن معناه: أن لا يكون الإنسان مغفلاً وإنما الواجب الفطنة والحذر وسوء الظن بالناس، لما جبل عليه سوادهم من الشر واللؤم والخداع، وفي معناه يقول حكيم لابنه: استعذ بالله من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر. . . وقد كان
الفاروق رضي الله عنه لا يقعقع له بالشنان وكان سيئ الظن بالناس، يدل على ذلك شدته وصرامته وحذره وسياسته الحازمة الرشيدة. . .
وبعد فإنك ترى في باب طبائع الإنسان كثيراً من عبقرياتهم في الشر ووصف الأشرار وحكمة امتزاج الخير بالشر في العالم، كما أنه سيمرّ بك قريباً كثير من عبقرياتهم في التقوى وحسن الخلق. . .
ومن أروع وأجمع ما قيل في البِرّ على سائر ألوانه قوله جلّ شأنه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. . .
نزلت هذه الآية الكريمة بعد أن أكثر أهل الكتاب من يهود ونصارى، الخوض في أمر القبلة حين حول رسول الله إلى الكعبة، وزعم كل من الفريقين أن البِرَّ هو التوجه إلى قبلته، ففند الله سبحانه هذا الزعم وبهرجه وقال: ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر هو أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمّة إليه هو بِرّ من آمن وقام بهذه الأعمال. . . هذا، وقوله. ليس البر أن تولوا فالبرَّ بالنصب خبر ليس مقدم. وأن تولوا مؤول بمصدر اسم ليس مؤخر، وقوله: ولكن البر من آمن: إما مثل قول الخنساء: 

فإنّما هي إقبال وإدبار
أو تقول؛ ولكن البر: أي ذا البر أو تقول، إنه على حذف مضاف، أي بر من آمن. وقوله سبحانه: والكتاب، يعني جنس كتب الله، أو القرآن. وقوله: على حبه، أي مع حب المال والشح به، وقدم ذوي القربى لأن الإحسان إليهم أفضل، كما ورد في الأثر: صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان، صدقة وصلة، وابن السبيل: المسافر المنقطع، وقيل الضيف: لأن السبيل يرعف به - أي يتقدم به ويبرزه للمقيمين كما يرعف الأنف بدم الرعاف - وقوله: وفي الرقاب: أي وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل: في شراء الرقاب وإعتاقها، وقيل: في فك الأسارى. وقوله: والموفون بعهدهم: عطف على من
آمن وقوله: والصابرين، فهو منصوب على المدح، ولم يعطف، لفضل الصبر على سائر الأعمال، والبأساء، أي في الأموال كالفقر، والضراء، أي في الأنفس كالمرض. وحين البأس: أي وقت مجاهدة العدو. . . أليست هذه الآية الكريمة - كما قال الإمام البيضاوي، وكما ترى - جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، دالة عليها صريحاً أو ضمناً، فإنها على تشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأول بقوله: من آمن بالله. إلى: والنبيين، وإلى الثاني بقوله: وآتى المال. . إلى: والرقاب، وإلى الثالث بقوله: وأقام الصلاة. . . إلى آخرها. ولذلك وُصِفَ المستجمعُ لها بالصدق، نظراً إلى إيمانه واعتقاده، وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق سبحانه، ولذلك قال عليه السلام: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان). 









مصادر و المراجع :

١- الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید