المنشورات
الناس مجبولون على البخل
وأما بعد فإن أكثر هذا الناس لقد جبلوا على البخل، فالبخل هو الأصل، وإنما الجود في سائر ألوانه، تكلُّفٌ وتعمُّلٌ وحَمْلٌ للنفس على مكروهها وعلى غير ما جُبلت عليه، وقد قيل لحاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود: كيف تجد الجود في قلبك؟ فقال: إني لأجده كما يجده الناس، ولكني أحمل نفسي على خُططِ الكرام، وقال بعض الأجواد: إنّا لنجد كما يجد البخلاء ولكنّا نصبر ولا يصبرون. . . وفي هذا المعنى يقول البحتري:
وَأشَقُّ الأفْعالِ أَنْ تَهَبَ الأن ... فُسُ ما أُغْلِقتْ عليهِ الأكُفُّ
ويقول أبو يعقوب الخُريميّ:
ودُونَ النَّدى في كُلِّ قَلْبٍ ثنِيَّةٌ ... بهَا مَصْعَدٌ حَزْنٌ ومُنْحدَرٌ سَهْلُ
ويقول أبو العتاهية:
اِطْرَحْ بطَرْفِكَ حيْثُ شِئْ ... تَ فلن تَرَى إلاَّ بخيلا
ويقول ابن نُباتة السّعدي:
كيف السبيلُ إلى الغِنى ... والبُخْلُ في الناسِ فِطْنَهْ
وأكثر من يتسخّى ويجود فإنما يجود رغباً أو رهباً - رغباً في عاجل الجزاء، كملقي الحب للطير ليصيد به لا لينفعه
ومَنْ يَظَّنُّ نَثْرَ الحَبِّ جُوداً ... ويَنْصِبُ تحْتَ ما نَثَرَ الشِّباكا
ورهباً من عابٍ يلتصق به أو مكروهٍ يصيبه:
مِثْلُ الحِمارِ المُوَقَّعِ الظّهْر لا ... يُعطيك شيئاً إلا إذا رَهِبا
وهناك صِنفٌ من الناس يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماًً، وإنما يكون ذلك تهوراً واندفاعاً منه مع نزوة من نزوات النفوس، كما قال الأديب أبو بكر الخوارزمي في الوزير الصاحب بن عباد:
لا تَحْمَدنَّ ابنَ عبَّادٍ وإنْ هَطَلتْ ... يداهُ بالجُودِ حتَّى أخْجلَ الدِّيَمَا
فإنّها خَطَراتٌ مِن وَساوِسِه ... يُعْطِي ويمنعُ لا بُخْلاً ولا كَرما
وقل من الناس من يجود استجابةً لفطرته، ولداعي الضّمير، كما يقولون: فليُلْحظ هذا، وليُلْحظ كذلك أنّ البخل رذيلةٌ تستتبع رذائل، وناهيك بالجبن رذيلةً، هي ألزم الرذائل للبخل: كما أن الجود فضيلةٌ تستتبع فضائلَ، وحسبك بالشجاعة فضيلةً هي أخص الفضائل بالجود:
ذَرِيني فإنَّ الشًُّحَّ يا أُمَّ هَيْتمٍ ... لِصالحِ أخلاقِ الرِّجالِ سَروقُ
وإذا اختبرْتَ عَلِمْتَ غيرَ مُدافَعٍ ... أنَّ السّماحَ سَجِيَّةُ الأبطالِ
وقال أبو تمام في ذلك - من أبيات يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني:
وإذا رأيتَ أبا يزيدٍ في نَدًى ... وَوَغًى ومُبدِيَ غارةٍ ومُعِيدا
يَقْرِي مُرَجِّيه مُشاشَةَ مالِه ... وشَبَا الأسِنَّةِ ثُغْرةً ووَريدَا
أيقنتَ أنَّ مِن السّماحِ شجاعةً ... تُدْمِي وأنَّ مِن الشَّجاعةِ جودا
وقال المتنبي:
هو الشجاع يَعُدُّ البُخْلَ مِن جُبُنٍ ... وهْوَ الجوادُ يَعُدُّ الجُبْنَ مِنْ بُخُلِ
وقد عدوا الشجاعة لوناً من الجود فقال مسلم بن الوليد:
يجُودُ بالنَّفسِ إذْ ضَنَّ البخيلُ بها ... والجودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجودِ
ولأجل هذين الملحظين، تظاهرت الآيات والأحاديث وما أثر عن الأوائل من العلماء والحكماء والشعراء والربانيين، على ذمِّ البخل وامتداح الجود والإحسان، وأكثروا وافتنوا وأبدعوا، الأمر الذي يدلّ على أنهم قدروا أثر الجود والبخل في الخُلق حقَّ قدره، وأنهم لذلك شنُّوا هذه الغارة الشعواء على الإنسان الأناني الكزِّ الشَّحيح الكامن في نفس كل إنسان. . .
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
22 أكتوبر 2024
تعليقات (0)