المنشورات

الجود واصطناع المعروف

ولنَدَعِ البخلَ والبخلاءَ لحظةً وننتقل إلى عبقرياتهم في الجود والإحسان واصطناع المعروف: جاء في كليلة ودمنة: إن أحسن الناس عيشاً من حَسُنَ عيشُ الناس في عيشه، وإنّ من ألذِّ اللذَّة الإفضالَ على الإخوان، وفي الحديث: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما سوى ذلك فهو ملك الوارث)، وقال
شاعرهم:
أنتَ للمالِ إذا أمْسَكْتَهُ ... فإذا أنفقْتَه فالمالُ لَكْ
وقال سعيد بن العاص من خُطبة له: من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً حتى يكون أسعد الناس به، فإنّه إنما يترك لأحد رجلين: إما مُصلِح، فلا يقلُّ عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء. . . فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرفي الكلام. . .
وقال الأحنف بن قيس: ما شاتمت رجلاً مذ كنت رجلاً، ولا زَحَمت ركبتايَ ركبتيه، وإذا لم أصِلْ مُجْتَدِيَّ حتى يَنْتِحَ جبينُه عرقاً كما يَنْتِحُ الحَميتُ، فواللهِ ما وصلتُه. . . قوله: مُجتديَّ: يريد. الذي يأتيه يطلب مالَه يقال: اجتداه يجتديه واعتفاه يعتفيه واعتراه يعتريه واعترَّه يعترُّه وعراه يعروه: إذا قصده يتعرّض لنائله. ويَنْتح كيَضْرِب: يرشح، والحَميت: وعاء السمن. يقول الأحنف: إنه لا يُحْوِجُ سائله إلى أن يترشح جبينُه عرقاً لمبادرته بإعطائه وقال معاوية بن أبي سفيان لوِردان مولى عمرو بن العاص: ما بقي من الدنيا تلذُّه؟ قال: العريضُ الطويلُ، قال: وما هو؟ قال: أن ألقى أخاً قد نَكَبه الدهرُ فأجبره، قال: نحن أحقُّ بهذا منك. . . قال: إن أحقّ بهذا منك مَنْ سبقك إليه. . . وقال ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغْبرّت قدماه في المشي إليّ إرادةَ التسليم عليّ؟ فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل: ومن هو؟ قال: رجلٌ نزل به أمرٌ فبات ليلتَه يفكِّر بمن يُنْزِلُه، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي. وقال ابن عباس أيضاً: لا يزهدنّك في المعروف كفرُ مَنْ كَفَره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه: كفر من كفره: يريد: كفر النعمة، أي عدم شكرها، وقوله: من لم تصطنعه إليه يريد الله عز وجل.
وأنشد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أحدُ الأجواد في الإسلام قولَ الشاعر:
إنَّ الصَّنيعةَ لا تكونُ صنيعةً ... حتَّى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ
فقال: هذا رجلٌ يريد أنْ يُبخِّلَ الناسَ، امْطُر المعروفَ مَطْراً فإن صادف موضعاً فهو الذي قصَدْتَ له، وإلا كنت أحقَّ به.
وبعد فهناك في هذا المعنى كما ترى مذهبان، فمذهب يرى إعطاء المستحقّ وغير المستحقّ، الكريم واللئيم، الشاكر، والكافر: ويقول هذا المذهب - والقائل الشاعر محمود
الوراق:
فإمَّا كريمٌ صُنْتُ بالجودِ عِرْضَهُ ... وإمّا لئيمٌ صُنْتُ عن لُؤْمِه عِرْضي
وقال بعضهم: لأن أُخْطِئ باذلاً، أحبُّ إليّ من أن أصيبَ مانعاً باذلاً ومانعاً: حالان من فاعل أخطئ وأصيب.
ومذهب آخر يرى حرمانَ اللئام ومن يُستَضَرُّ بإعطائه، قال قائلهم: اتقوا صولةَ الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. وقالوا: اللئيم يزداد بالعُرْفِ خَبالاً، كما يزداد المريضُ من كثرة الطعام وبالاً، خبالاً: فساداً.
وقال شاعر:
ليس في مَنعِ غَيْرِ ذي الحَقِّ بُخْلُ
وقال الآخر:
ومَنْ يَصْنَعِ المعروفَ معْ غيرِ أهلِهِ ... يُلاقي كما لاقى مُجِيرُ امِّ عامرِ وأخيراً قالوا - والقائل أبو العتاهية -:
إذا المالُ لم يُوجِبْ عليكَ عطاَءه ... صنيعةُ تقوى أو خليلٌ تُخالِفُهْ
منَعْتَ وبعضُ المَنْعِ حزمٌ وقوّةٌ ... ولم يبْتَذِلْكَ المالَ إلا حقائِقُهْ
وقال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال! قال: بأبي أنتما، إن الله عوّدني أن يفضِّل عليَّ، وعوّدته أن أفضِّلَ على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عنِّي. . .
ومرّ يزيدُ بن المُهلّب بأعرابيّةٍ، في خروجه من سجن عمرَ بنِ عبد العزيز، يريد البصرة، فقَرَتْه عنزاً فقَبِلها، وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ فقال: ثمانمائة دينار، قال فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجالَ، ولا يكون الرجالُ إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعدُ لا تعرفك، فقال له: إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، ادْفَعْها إليها. . .
وأورد المبرّد في الكامل ما يأتي: وأشرف عُمرُ بن هبيرة الفَزاري - والي العراقين ليزيد بن عبد الملك - من قصره بالكوفة يوماً، فإذا هو بأعرابيٍّ يرقِّصُ جَمَلَه الآلُ فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوْصِلْه إليّ، فلما دنا الأعرابي سأله، فقال: قصدت الأمير، فأدخله إليه، فلما
مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك؟ فقال الأعرابي:
أصْلَحَكَ اللهُ قلَّ ما بيَدي ... فما أُطيقُ العِيالَ إذْ كَثُرُوا
أَلحَّ دَهْرٌ أنحَى بكَلْكلِه ... فأرْسَلُوني إليك وانتَظَرُوا
رَجَوْكَ لِلدَّهْرِ أنْ تكونَ لهم ... غَيْثَ سحابٍ إن خانَهُم مَطَرُ
فأخذت عمرَ الأريحيةُ، فجعل يهتزُّ في مجلسه، ثم قال: أرسلوك إليَّ وانتظروا! إذن والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانِماً. وأمر له بألف دينار، وردّه على بعيره. . قال المبرّد: وحُدِّثتُ أن الخبر لمعن بن زائدة. أقول: وقد أورده ابن خلكان منسوباً لمعن.
وهذا معن بن زائدة هو الآخر له في المكارم غُررٌ وأوضاحٌ، وهو أشهر في باب الأريحية والجود والإقدام والحلم من أن ينوّه به، وهو معن بن زائدة الشيباني، كان في أيام بني أمية متنقلاً في الولايات، ومنقطعاً إلى يزيد بن عمرَ بن هبيرة والي العراقين، فلما أدال من بني أمية بنو العباس، وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد بن عمر المذكور ما جرى، أبلى يومئذ معنٌ مع يزيدَ بلاءً حسناً، فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور، فاستتر عنه مدة وجرى له مدة استتاره غرائبُ، وهنا يحدثنا شاعره الفحل مروان بن حفصة بحديث طريف من هذه الغرائب. قال: أخبرني معنٌ وهو يومئذ متولّي بلادَ اليمن: أن المنصور جدّ في طلبي، وجعل لمن يحملني إليه مالاً، قال معن: فاضطررت لإلحاحه في الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوّحت وجهي، ولبست جُبّةَ صوفٍ، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، فلما خرجت من باب حربٍ - أحد أبواب بغداد - تبعني أسودُ متقلِّدٌ سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خِطام الجَمل، فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك؟ قال: أنت طلبة أمير المؤمنين، قلت: ومن أنا حتى أُطلَب! قال: أنت معن بن زائدة، فقلت له: يا هذا، اتقِ اللهَ عزَّ وجلَّ، وأين أنا من معنٍ! فقال: دعْ هذا، فإني - والله - لأعرفُ بك منك، فلما رأيت منه الجِدَّ قلت له: هذا عقدُ جوهرٍ قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سبباً لسفكِ دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعةً، وقال صدقت في قيمته، ولست قابلَه حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، قلت: قل، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني: هل وهبت مالك كلّه قطّ؟ قلت: لا، قال فنصفَه، قلت: لا، قال: فثلثَه، قلت: لا،
حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت هذا، قال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجلٌ - يريد من المشاة - ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك ووهبتك لنفسِك ولجودِك المأثورِ بين الناس ولتعلم أنّ في هذه الدُّنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسُك، ولتحقر بعد هذا كلَّ جودٍ فعلته ولا تتوقف عن مَكْرمة، ثم رمى العقد في حِجْري، وترك خِطامَ الجملِ، وولّى منصرفاً، فقلت: يا هذا، والله لقد فضحتني، ولسفكُ دمي عليَّ أهونُ مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فإني غنيٌّ عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذّبني في مقالي هذا! والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً، ومضى لسبيله، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء فما عرفت له خبراً، وكأن الأرض ابتلعته. . ألا ترى معي أن ما فعله هذا الجُنديّ الفقير إن لم يفق به معن بن زائدة وأشباه معن بن زائدة، في باب المروءة والفتوة والنجدة والكرم وعبقرية الروح فإنه لا يقل عنهم!
جُهْدُ المُقِلِّ إذا أعطاكَ نائلَهُ ... ومُكْثرٌ من غِنًى سِيَّانِ في الجُودِ
فهو كما قال الشاعر:
ولَمْ يكُ أكْثرَ الفِتيانِ مالاً ... ولكن كانَ أرْحَبَهمْ ذِراعا
ومن هنا حثوا على الجود والمروءة والتسخي حتى في حالة العسر والضيق فمن ذلك ما قرأناه منسوباً لبُزُرْ جِمِهْرَ أو ليحيى بن خالد البرمكي أو لامرأة من العرب توصي به ابنها، وهو: إذا أقبلت عليك الدُّنيا فأنفق، فإنَّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنَّها لا تبقى. أخذه بعض الشعراء فقال:
وأنْفِقْ إذا أنفقتَ إنْ كنْتَ مُوسِراً ... وأَنفِقْ على ما خيَّلَت حينَ تُعْسِرُ
فلا الجودُ يُفْني المالَ والجَدُّ مقْبلٌ ... ولا البخلُ يُبقي المالَ والجَدُّ مُدْبرُ
وقال الآخر في معناه:
لا تَبْخَلنَّ بدُنْيا وهي مُقْبِلةٌ ... فليس يَنْقُصُها التَّبْذيرُ والسَّرَفُ 

فإنْ توَلَّتْ فأحْرَى أنْ تَجُودَ بها ... والشُّكْرُ منها إذا مَا أَدْبرَتْ خلَفُ
ولاتنس أن مرادهم بالإنفاق والجود هنا: الإنفاق في سبيل الله والبِرّ لا في سبيل الشيطان والإثم، والجود على ذوي الحقوق ومن هم في حاجة إليك حتّى مع إدبار الدنيا عنك،
وبالحريِّ مرادهم بالسرف: السرف في الشرف، وما يكسب المرءَ مَحْمِدةً ومِقةً. ويؤثر عن معاوية أو المأمون - وقد قيل لأحدهما: لا خير في السرف - فقال: لا سرفَ في الشرف. . .
وقال سلم بن قتيبة: أحدكم يحقر الشيءَ فيأتي ما هو شرٌّ منه، يعني المنع، يريد الحث على إعطاء القليل إن لم يستطع إعطاءَ الكثير، وقال حماد عجرد في ذلك من أبيات:
بُثَّ النَّوَالَ ولا تمنَعكَ قِلَّتُهُ ... فكلُّ ما سَدَّ فقْراً فَهْوَ مَحْمودُ
يقول فيها:
إنَّ الكَريمَ ليُخْفِي عَنْكَ عُسْرَتَهُ ... حَتَّى تراهُ غَنيِّاً وهوَ مَجْهُودُ
إذا تكرَّمْتَ أَنْ تُعْطي القليلَ ولمْ ... تَقْدِرْ على سَعةٍ لمْ يَظْهرِ الجُودُ
ولِلْبَخيلِ على أمْوالِه عِلَلٌ ... زُرْقُ العُيونِ علَيْها أَوْجُهٌ سُودُ
أَوْرِقْ بخَيْرٍ تُرَجَّى لِلنَّوالِ فَما ... تُرْجى الثِّمارُ إذا لم يُورِقِِ العودُ
والعرب تقول: من حقَرَ حرَمَ. . حقر الشيء: عدّه حقيراً، أي من حقر يسيراً يقدر عليه ولم يقدر على الكثير ضاعت لديه الحقوق وفي الحديث: (لا تردّوا السائل ولو بظِلْفٍ مُحْرَقٍ الظلف من كل ما يجترُّ من الحيوانات كالبقرة والظبي بمنزلة الحافر من الفرس، ويقال: أحرق الشيء بالنار وحرّقه شدّد لكثرة وقال المعري:
إذا طرقَ المِسْكينُ بابَكَ فاحْبُهُ ... قليلاً ولو مِقْدَارَ حبَّةِ خَرْدَلِ
ولا تحتَقِرْ شيئاً تُساعِفُه به ... فكمْ من حَصاةٍ أَيَّدَتْ ظَهْرَ مِجْدَلِ
المجدل: القصر المشرف وكان ابن عباس يقول: صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأً. وهذا من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المعروف يقي مصارع السوء). . . وكان ابن عباس يقول أيضاً: ما رأيت رجلاً أوليته معروفاً إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلاً أوليته سوءاً إلا أظلم ما بيني وبينه، ومما يروى في هذا المعنى أن رجلاً كان في مجلس خالد بن عبد الله القسري، فقام من المجلس، فقال خالد: إني لأبغِضُ هذا الرجل وما له إليّ ذنبٌ، فقال رجلٌ من القوم: أولِه أيّها الأميرُ معروفاً ففعل، فما لبث أن خفَّ على قلبه وصار أحدَ جلسائه. وفي هذا المعنى يقول سيّد موسيقي الإسلام أبو إسحاق الموصلي:
أرى الناسَ خُلاَّنَ الجَوادِ ولا أرى ... بَخيلاً له في العالمينَ خليلُ
ومِنْ خَيرِ حالاتِ الفتى لو عَلِمْتِه ... إذا نالَ شيئاً أن يكونَ يُنِيلُ
فإنّي رأيتُ البخلَ يُزْري بأهلِه ... فأكرَمْتُ نفسي أنْ يُقالَ بَخيلُ
ويقول المتنبي:
وأحسَنُ وَجْهٍ في الورَى وجْهُ مُحْسِنٍ ... وأيمَنُ كفٍّ في الورى كَفُّ مُنْعِمِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتّصلت نِعَمُ اللهِ عليه، كثرت حوائجُ الناسِ إليه، فمن لم يحتمل تلك المُؤن عُرِّض لزوالِ تلك النعم)، وقال خالد بن عبد الله القسري أيضاً: حوائج الناس إليكم نعمٌ من اللهِ عليكم، فلا تملّوا النعمَ فتتحوّل نِقماً، قال الشاعر:
بَدَا - حينَ أثْرَى - بإخْوانِه ... فَفلَّلَ عنهمْ شَباةَ العَدَمْ
وذكَّرَه الحزمُ غِبَّ الأُمورِ ... فبادرَ قبْلَ انْتِقالِ النِّعَمْ
وعن سيدنا رسول الله: (تنزل المعونة على قدر المؤونة) ومعناه: أنه كلما تكاثر على المرء من يحقُّ عليه أن يعولَهم ويقومَ بمؤونتهم، ففعل، أو كلّما أنفق المرء في سبيل البِرّ، أعطاه الله بمقدار ذلك، وجاء في الحديث المرفوع: (من وسّع وُسِّعَ عليه)، و: (كلما كثُرَ العيال كثر الرزق). . .
وقالوا في معنى النجدة وإقالة العثرات وواجبات ذوي الجاه: بذل الجاه زكاة الشرف. وفي الحديث: (إن الله يسأل العبدَ عن جاهه كما يسأله عن ماله وعمره، فيقول: جعلت لك جاهاً فهل نصرت به مظلوماً أو قوّمت به ظالماً أو أغثت به مكروباً!) وفي الحديث أيضاً: (أفضل الصدقة أن تعين من لا جاه له). . . وقال أبو تمام:
وإذا امْرُؤٌ أٍَسْدى إليَّ صنِيعَةً ... مِنْ جاهِهِ فكأنّها من مالِه
وكان زياد بن أبيه يقول لأصحابه: اشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان - يريد: كل من بيده الأمر - وصل إليه، ولا كل من وصل استطاع أن يكلّمه. . . والأصل في هذا قوله سبحانه: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً}. قال المفسرون: الشفاعة الحسنة: هي التي رُوعي بها حقُّ مسلمٍ ودفع بها عنه شرٌّ أو جُلب إليه خيرٌ وابتغي وجهُ الله ولم تؤخذ عليها رشوةٌ، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك. وقوله سبحانه: يكن له نصيب منها: فذلك
النصيب: هو ثواب الشفاعة وجزاؤها عند الله، وقوله يكن له كفل منها: أي نصيب من وزرها مساوٍ لها في القدر، وقوله عز وجل: وكان الله على كل شيء مقيتاً، فالمقيت: المقتدر من أقات على الشيء إذا قدر، قال الزبير بن عبد المطلب وقيل لأبي قيس بن رفاعة -:
وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وكنتُ على مَسَاَءتِهِ مُقيتَا
وفُسِّر المقيتُ بالحافظ واشتقاقه من القُوت، فإنه يقوّي البدن ويحفظه.
ومن أجمل ما قيل في الجود قول حاتم طيء:
أماوِيَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ 

أماوِيَّ إنْ يُصْبِحْ صَدَايَ بِقَفْرَةٍ ... مِنَ الأرْضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تَرَيْ أَنَّ ما أَبْقَيْتُ لمْ أَكُ رَبَّهُ ... وأنَّ يَدِي ممَّا بَخِلْتُ بِهِ صِفْرُ
أماوِيَّ إنَّ المَالَ غادٍ ورَائِحٌ ... ويَبْقَى مِنَ المَالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
غنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى ... وكُلاًّ سَقاناهُ بكأسَيْهمَا الدَّهْرُ
فما زادنا بَأْواً على ذي قَرابةٍ ... غِنانا ولا أزْرَى بأحسابنا الفقْرُ
ألست معي في أن على هذه الأبيات مسحةً من الجمال وأثراً بيّناً من الصدق وأن لها لوطةً من ثمّ بالقلب! أليس حاتمٌ يقول: الحق أقول: إنه لا ينبغي لك يا ماوية أن تلوميني على إنفاق مالي في سبيل البرِّ والإلطاف، والتخرق في النوال وقرى الأضياف، أما تعلمين أنّ مال المرء لا يغني عنه شيئاً إذا ما الموت رماه بسهامه وغادر هذه الحياة، أما تعلمين أنَّ المرء متى نُبِذ جسدُه بالعراء وأودع حفرةً موحشةً مقفرةً ليس معه شيء مما كان يحتازه في هذه الدنيا من مال، بدا لك أنّ المال الذي تركته وبخلت به على مستحقيه أصبح مُلكاً لغيري وأصبحت أنا خالي الوِفاضِ بادي الإنفاض لا أملك من هذا المال شَرْوى نقير! أليس الأخلق بي لذلك أن أنفقه وأتسخّى به على أهليه، فأنتفع بعد موتي - إذا أنا فعلت - بالذكر في الناس والحديث الحسن! وأيّةُ قيمةٍ للمال يا ماويّة، ذلك الذي يجيء ويذهب، ويغدو ويروح! أليس الأخلق بالعاقل الثاقب النظر أن يفيد منه ما هو أبقى على الزمن الباقي من الزمن - أن يفيد منه الذكرَ من طريق إنفاقه، والجود به في وجوه استحقاقه! لقد عشنا يا زوجتي حيناً من الدهر أغنياء كما عشنا حيناً فقراء، وكلاً سقاناه الدهر بكأسيهما،
فما أزرى الدهر بأحسابنا، ولا أصغى إناءَ أعراضنا، ولا أسف بأخلاقنا، كما هو شأنه مع ضعفاء النفوس، وكذلك إذ كنا أغنياء، ما أبطرنا الغنى، وما أطغانا، على ذوي قُربانا، لأنّا نعلم علماً ليس بالظن أن المال عرض زائل، أما الجوهر، أما الذكر، أمّا الشرف، أما الخُلق، فكل أولئك هو الذي عليه المعوَّل، وإنه لذخيرة لا تنفد، وهي حسب العاقل الذي راضَ نفسَه على السكون إلى الحقائق، ولم يخلد إلى أمِّ دَفْرٍ باطلِ الأباطيل. . .
أما بعد فلقد أذكرتنا هذه العبقرياتُ الكريمة من القول، عبقريةَ رجلٍ من رجالات السلف لقد بلغ المبالغ في الإحسان واصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، وإنه لحقٌّ علينا أن نعرض شيئاً لهذه العبقريّة من الفعال، إذ أنّ كتابنا هذا ليس بمقصور على العبقريّ من القول وإنما نعرض كذلك للعبقريّ من الأناسيّ في أي معنًى من المعاني على شريطة أن يكون ذلك لِماماً، فلا نُغْفِل الإغفالَ كلَّه ما يعنينا من سير العبقريين، ويمتُّ منها بسببٍ واصلٍ إلى أيّ باب من أبواب هذا الكتاب، ولا نتبسَّط التبسُّط الذي يلحقنا بأصحاب السِّيرِ والمُترجمين؛ وشخصيتنا التي حبب الله إلينا أن نلمَّ بعبقريّتها في باب البرّ والإحسان هو رجلٌ من رجال أسلافنا كما قلنا - هو قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد. . . 










مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید