المنشورات

حسن الخلق

وعبقرياتهم فيه وفيما يتأشّب إليه
وهذا هو أحد لوني الإحسان إلى الناس، وإن شئت قلت هو اللون الثالث من ألوان البِرّ، أعني حُسنَ الخلق.

تحضيضهم على حسن الخلق
قال الله عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. {خُذِ الْعَفْوَ}: فالعفو: السهل الميسّر، يقول سبحانه: احتمل أخلاق الناس واقبل ما سَهُل منها وتيسّر، ولا تستقصِ عليهم فيستقصي الله عليك، مع ما فيه من العداوة والبغضاء قال شُرَيْح:
خُذِي العفْوَ مِنِّي تستديمي مودّتي ... ولا تَنطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ 

فإني رأيتُ الحُبَّ في الصَّدْرِ والأذى ... إذا اجْتَمَعا لم يَلْبَثِ الحبُّ يَذْهَبُ
وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: فالجهل هنا ما قابل العقل والجاهلون: الحمقى الأشرار السيّئو الأخلاق، أمر الله نبيه بأن لا يماري الجاهلين ولا يكافئهم بمثل أفعالهم.
وقال سيدنا رسول الله: (إنكم لن تَسعوا الناسَ بأموالِكم فسَعوهم بأخلاقكم). ومن ذا قولُ حكيم وقد قيل له: هل من جودٍ يُتناول به الخَلْقُ؟ فقال: نعم، أن تحسن الخُلُقَ وتنوي الخيرَ لكل أحد. . . وقال صلوات الله عليه: (ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالسَ يوم القيامة!: أحاسنكم أخلاقاً الموطَّؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالسَ يوم القيامة! الثّرثارون المتفيهقون). . . قوله: أحاسنكم أخلاقاً يريد: الأحاسنَ منكم على إرادة التفضيل لا الوصف، وذلك أن العرب تقول في الوصف: رجلٌ حَسنٌ ولم تقل رجلٌ أحسن، مع قولهم امرأة حسناء. ونظيره في عكسه: غلامٌ أمردُ ولم يقولوا جارية مرداء. وقوله: الموطؤون أكنافاً: يريد دماثة الخُلق ولينَ الجانبِ وأن ناحيته يتمكّن فيها صاحبه غير مؤذًى ولا نابٍ به موضعُه. وأصل التوطئة: التذليل والتمهيد يقال: فراشٌ وطيءٌ إذا كان وثيراً - أي ليّناً - والثرثارون: الذين يكثرون الكلامَ تكلّفاً وتجاوُزاً وخروجاً عن الحق، وأصل هذه اللفظة من العينِ الواسعة من عيون الماء يقال: عينٌ ثَرْثارة وثَرّارة: إذا كانت كثيرةَ الماء. . . والمتفيهقون: بسبيل من الثرثارون وهو تأسيس له، واشتقاقه من قولهم: فَهِقَ الغَديرُ يَفْهَقُ: إذا امتلأ ماءً فلم يكن فيه موضعٌ مزبدٌ: يصفهم بأنهم يوسعون أشداقَهم ويملؤونها بالكلام. قال أبو العبّاس المبرّد بعد ما أورد ما أوردناه من تفسير هذا الحديث: وتصديقُ ما فسّرناه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يريد الصدقَ في المنطق والقصدَ وتركَ ما لا يُحتاج إليه: قوله لجرير بن عبد الله البَجَلي: يا جرير: إذا قلتَ فأوْجِزْ وإذا بلغتَ حاجتَك فلا تتكلّف. وقال الله جل شأنه في الحث على لين الكلام: وقولوا للناس حسناً. وقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً}، وقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}. وقال: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً}. . . وقالوا: من لانت كلمته وجبت محبتُه. وقالت جدة سفيان بنِ عُيينة له:
بُنَيَّ إنَّ البِرَّ شيءٌ هَيْنُ ... المَفْرَشُ اللّيِّنُ والطُّعَيْمُ
ومَنْطِقٌ إذا نَطقْتَ لَيْنُ
قولها هَيْنٌ: فالعرب تقول: رجلٌ هَيْنٌ لَيْنٌ وهَيّنٌ لَيّنٌ وفي الحديث: (المؤمنون هيّنون ليّنون كالجملِ الأنِفِ إن قُدْتَه انقادَ وإن أنَخْتَه على صخرة اسْتَناخ) جمل أنفٌ: أي مأنوف، أي يشتكي أنفُه من خِشاشٍ أو بُرَةٍ أو خِزامة في أنفه فلا يمتنع على قائده في شيء للوجع، فهو
ذلول منقادٌ، ومعنى المؤمنون كالجمل الأنف: أنهم لا يَريمون التشكّي، أي يُديمون التشكي مما بهم إلى الله وحده لا إلى سواه. أقول: وأحسن من هذا التفسير قول بعضهم: الجمل الأنف: الذليل المُؤاتي الذي يأنَف من الزّجْر ومن الضرب ويُعطي ما عنده من السير عفواً سهلاً، كذلك المؤمن، لا يحتاج إلى زجر ولا عتاب، وما لزمه من حقٍّ صَبرَ عليه وقام به، وهذا تفسير جميل، وهو أليق بكلام سيدنا رسول الله. وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أوما تقرؤون القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. . . وقالوا: صفاءُ الأخلاق من نَقاء الأعراق. الأعراق جمع عِرق وهو الأصل يقال رجل مُعْرِقٌ في الحسب والكرم قالت قُتيلة بنت النضر بن الحارث أو أخته:
أمُحمَّدٌ ولأَنتَ ضِنْءُ نجيبةٍ ... في قومها والفحلُ فحلٌ مُعْرِقُ
أي عريق النسب أصيل، ويستعمل في اللؤم أيضاً تقول: إنّ فلاناً لمُعْرقٌ في الكرم، ومعرق في اللؤم. والضنء: الولد والأصل والمعدن وقال البحتري:
سلامٌ على تلك الخلائق إنها ... مُسَلَّمةٌ من كلِّ عارٍ ومأْثَمِ
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ثلاثة من قريش أحسنُها أخلاقاً وأصبحُها وجوهاً وأشدُّها حياءً، إن حدثوك لم يكذِّبوك، وإن حدَّثتهم بحق أو باطل لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وأبو عُبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم. . .
وفي الأثر أيضاً: أن حُسنَ الخُلق وحُسن الجوارِ يُعمِّرانِ الديارَ ويزيدانِ في الأعمار. وفي كتاب الهند: من تزوّد خمساً بلّغته وآنَسَتْه: كفُّ الأذى، وحسنُ الخلق، ومُجانبةُ الرِّيَبِ، والنبلُ في العمل، وحسنُ الأدب.

نَهْيُهم عن سوء الخلق
وقالوا: سوء الخُلق يفسد العمل كما يفسد الصَّبِرُ العسلَ الصَّبِرُ هو هذا الدواء المُرّ ولا يسكَّن إلا في ضرورة الشعر وفي الحديث: من ساء خُلقه عذَّب نفسَه، وقال العتّابيّ: 

وكُنتَ امرأً لو شئتَ أنْ تبْلُغَ المُنى ... بلغْتَ بأدْنى غايةٍ تسْتديمُها
ولكن فِطامُ النَّفْسِ أثقَلُ مَحْمِلاً ... من الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ حينَ ترُومُها
وقال عِقال بن شَبَّةَ: كنتُ رديفَ أبي، فلقيَه جريرٌ على بغل، فحيّاه أبي وألطفه، فلما مضى قلت: أبعد ما قال لنا ما قال! قال: يا بنيَّ، أفَأُوَسِّع جرحي!. وقال ابن الحنفية: قد يُدْفَع
باحتمال مكروهٍ ما هو أعظم منه. . . وقال أبو الدرداء: إنا لنَكْشِرُ في وجوه قومٍ وإنَّ قلوبَنا لتقليهم.
وقالوا: لا مُداراةَ للخُلق السيّئ القبيح، كالشجرة المُرّة لو طُليَتْ بالعسلِ لَمْ تثمر إلا مُرّاً، وكذَنَبِ الكلبِ لو أدخلْتَه القالبَ سنينَ لعادَ إلى اعْوِجاجه. ومن طُرَفهم في هذا المعنى قولُ بعضِهم لأحمدَ بنِ أبي خالد: لقد أُعطيتَ ما لَمْ يُعْطَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لَئِنْ لَمْ تَخْرُجْ من ذلك لأضربنّك، فقال الرجل: إنّ اللهَ تعالى قال لنبيِّه: {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، وأنت فظٌّ ونحنُ لا ننفضُّ من حولك. وقال بعضهم: خَطبْتُ امرأةً، فأجابتني فقلت: إنّي سيّئ الخُلق؛ فقالت: أسوأ خلقاً منك من يُلْجِئك إلى سوءِ الخُلق. . . وقال بعضهم لرجل سيّئ الخلق: إن استطعت أن تغيّر خُلقَك وإلا فليَسَعْك من أخلاقنا ما ضاق به ذَرْعُك. . .
 










مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید