المنشورات

الاستغفار

قال علي بن أبي طالب: العجبُ لِمَنْ يَقْنَطُ ومعه النجاة: الاستغفار. . . وقالوا لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار. وقال حكيم: أيّها السلاطين، لا بدَّ لكم من المعاصي الكبار فافعلوا بإزائِها طاعاتٍ عظيمةً، أيّها الأوساطُ، يمكنكم الطاعات العظيمة، كالمصالح التي لا يقدر عليها إلا السلطان، فلا تركبوا المعاصي الكبيرة. . . وقال بعضهم: سمعني راهبٌ أقول: أستغفر اللهَ، فقال: يا فتى، سرعةُ اللسانِ بالاستغفارِ توبةُ الكذّابين. . ويدلُّ على ما قاله قوله صلى الله عليه وسلم: (المستغفرُ باللسانِ المصرُّ على الذنبِ كالمُسْتهزئ
بربّه). وقال الربيع بن خثيم: لا يقولنَّ أحدكم: أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه فيكون ذَنْباً جديداً إذا لم يفعل، ولكن ليقل: اللَّهُمّ، تُبْ عليّ واغفر لي، فقيل: ولِمَ؟ فقال: انْتِه عمّا ينهاك عنه فإنه يُغْفرُ لك. . . وقال عمر رضي الله عنه: لم أرَ أشدَّ طلباً وأسرعَ دَرَكاً من حسنةٍ حديثةٍ لذنبٍ قديم. دَرْكاً بسكون الراء وفتحها: لحاقاً وإدراكاً. . . وسئل بعضُ المجّان: كيف أنتَ في دينك؟ قال: أُخْرِّقه بالمعاصي وأرقِّعه بالاستغفار. . .
وأما بعد فلو يؤاخذ اللهُ الناسَ بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً. 

يا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَناحَها ... في ظُلْمةِ الليلِ البهيمِ الألْيلِ
ويَرى عُروقَ نِياطِها في نَحْرِها ... والمُخَّ في تِلْكَ العِظامِ النُّحَّلِ
اغْفِرْ لِعبْدٍ تابَ من فَرَطاتِه ... ما كان مِنهُ في الزَّمانِ الأوَّلِ

عبقريات شتى في الخوف والتقوى
ورد في الحديث الصحيح: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولَمَا ساغ لكم الطعامُ ولا الشرابُ) لضحكتم قليلاً: أي لم تضحكوا البتّة إذ القليل ههنا بمعنى العدم. . . وجاء في خطبة لسيدنا رسول الله: (أيها الناس، إن لكم معالمَ فانتهوا إلى معالِمِكم، وإنّ لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتِكم، فإنَّ العبد بين مخافتين: أجلٌ قد مضى لا يدري ما اللهُ فاعلٌ فيه، وأجلٌ باقٍ لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذِ العبدُ من نفسِه لنفسِه، ومن دنياه لآخرتِه، ومن الشبيبةِ قبلَ الكِبَر ومن الحياة قبل المَمات، فوالذي نفسُ محمدٍ بيدِه، ما بعدَ الموت من مُسْتَعْتَبٍ، وما بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنةُ والنارُ). . . معالمُ جمعُ مَعْلم، وهو ما جُعِلَ علامةً للطرق والحدود، ضربه مثلاً لأحكام الله وحدوده. 

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ومستعتب: مصدر ميميٌّ معناه طلبُ الرّضا، تقول: استعتب فلاناً: إذا طلبتُ منه العُتبى، وهي الرضا: يريد: ليس بعد الموت من استرضاءٍ، لأن الأعمال بطلت وانقضى زمانُها، وما بعد الموت دارُ جزاءٍ لا دارُ عملٍ.
وقال أبو العتاهية:
يا عَجباً للناسِ لو فكَّروا ... وحاسَبُوا أَنفُسَهم أبْصَروا
وعَبَرُوا الدُّنيا إلى غيرِها ... فإنّما الدُّنيا لهم مَعْبَرُ
الخيْرُ ممّا ليسَ يَخْفَى هو ال ... مَعروفُ والشَّرُّ هو المُنْكَرُ
والمَوْعِدُ المَوتُ وما بعدَه ال ... حَشْرُ فذاكَ المَوْعِدُ الأكْبَرُ
لا فَخْرَ إلا فخرُ أهْلِ التُّقَى ... غَداً إذا ضَمَّهُمُ المَحْشَرُ
لَيَعْلَمَنَّ الناسُ أنَّ التُّقى ... والبِرَّ كانا خيْرَ ما يُذْخَرُ
عجِبْتُ للإنسانِ في فَخْره ... وهْو غدا في قَبْرِه يُقْبَرُ
ما بالُ من أوَّلُهُ نُطْفةٌ ... وجيفةٌ آخِرُه يَفْخَرُ
أصْبَحَ لا يَمْلِك تقديمَ ما ... يَرْجو ولا تأخيرَ ما يَحْذَرُ
وأصْبحَ الأمْرُ إلى غيرِه ... في كلِّ ما يُقْضَى وما يُقْدَرُ
أما قوله: يا عجباً للناس لو فكّروا. . البيت، فمأخوذٌ من قولهم: الفِكرة مرآةٌ تريك حَسنَك من قبيحك؛ ومن قول لقمانَ لابنه: يا بنيَّ، لا ينبغي لعاقلٍ أن يُخليَ نفسَه من أربعة أوقاتٍ، فوقتٌ منها يناجي فيه ربَّه، ووقتٌ يحاسب فيه نفسَه، ووقت يكسب فيه لمعاشِه، ووقت يُخلي فيه بين نفسِه وبين لذَّتها ليستعينَ بذلك على سائر الأوقات. وقوله: وعبروا الدنيا إلى غيرها. . . البيت مأخوذٌ من قول الحسن البصري: اجعل الدنيا كالقنطرةِ تجوز عليها ولا تَعْمُرُها، وقوله: الخير مما ليس يخفى. . . البيت، مأخوذ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبدَ الله، كيف بك إذا بقيت في حُثالةٍ من الناس مَرِجَتْ عهودُهم وأماناتُهم وصار الناسُ هكذا، وشبّك بين أصابعه؟ فقلت: مُرْني، يا رسول الله، فقال: خُذْ ما عرفت ودَعْ ما أنكرتَ وعليك بخُوَيْصةِ نفسِك وإيّاك وعوامَّها). . . وقوله: ليعلمن الناس. . . البيت، مأخوذ من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حُشر الناسُ في صعيدٍ واحدٍ نادى مُنادٍ من قبل العرش: ليعلمن أهلُ الموقفِ من أهلُ الكرم اليوم؟ ليقم المتّقون، ثم تلا رسول الله: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وقد تقدّم صدرَ بابِ البِرِّ أنّ الأخطل سبق أبا العتاهيةِ في هذا بقوله:
وإذا افْتَقَرْتَ إلى الذَّخائرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْراً يكونُ كصالحِ الأعمالِ
وقوله: ما بال من أوله نطفة. . . البيت، مأخوذ من قول علي رضي الله عنه: وما ابن آدم والفخر وإنّما أوله نطفةٌ وآخِرُه جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفَه وكان عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه يقول: أيّها النّاس إنّما خلقتم للأبد، ولكنّكم تنقلون من دارٍ إلى دار. .
وقال مالك ابن دينار: 

جاهدوا أهواءَكم كما تُجاهدون أعداءَكم. . . وقال علي رضي الله عنه: من سرّه الغنى بلا مالٍ، والعزُّ بلا سلطان، والكثرةُ بلا عشيرة، فليَخْرُجْ من ذلِّ معصيةِ الله إلى عزِّ طاعته، فإنه واجدٌ ذلك كله. . . وقال يزيد بن الصَّقيلِ العَقيلي - وكان يسرق الإبلَ في عهد بني أميّة ثم تاب وقُتل في سبيل الله -:
أَلاَ قُلْ لأرْبابِ المَخائِضِ أهْمِلوا ... فقد تابَ مِمَّا تعْلمونَ يَزيدُ
وإنَّ امْرَءاً يَنْجُو من النارِ بَعْدَمَا ... تزَوَّدَ من أَعْمالِها لَسَعيدُ
المَخائض جمع مَخاض - ومخاض واحده خَلِفَة - الناقة استبانَ حملُها - فمَخائض جمع الجمع، ومَخاض: جمع على غير واحد، كما تقول: امرأةٌ ونساء، وقوله: أهملوا: أي اسرحوا إبلَكم - وفي هذا الشعر:
إذا ما المَنايَا أخْطَأَتْكَ وصادَفَتْ ... حَميمَكَ فاعْلَمْ أنّها ستعودُ
وفي معنى هذا البيت ما يروى عن محمد بن الحنفية - ابن الإمام علي - أنّه كان يقول - إذا مات له جارٌ أو حميم -: أولى لي، كدت واللهِ أكونُ السوادَ المُخْتَرم. . . أولى لي، مثله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}، وهي كلمة تهديدٍ ووعيد، معناها: قاربك ما تكره، أو الشرُّ أقرب إليك، والسواد: شخصُ الإنسانِ وكلُّ شيء من متاع وغيره، وفي الحديث: (إذا رأى أحدكم سواداً بليلٍ فلا يكن أجبنَ السَّوادَيْن، فإنّه يخافُك كما تخافُه)، والمُخْتَرم - من اخترمتْه المنيّة: أخذته من بين أصحابه. . .
وقال أبو نواس:
ولقد نَهَزْتُ مع الغُواةِ بدَلْوِهِمْ ... وأَسَمْتُ سَرْحَ اللَّهوِ حيث أساموا
وبلَغْتُ ما بلغَ امْرُؤٌ بشَبابِه ... فإذا عُصارَةُ كلِّ ذاكَ أَثَامُ 

أثام كسلام: عقابُ الإثم وجزاؤه، ونهزت بدلوهم يقال: نهزت بالدّلو في البئر: إذا حرّكتها لتمتلئ. . . وهو هنا على المثل. . . يقول أبو نواس: لقد غويت زماناً مع الغُواة ولهوت كما لهوا وخلعت عِذاري كما خلعوا عِذارَهم وبلّغت شبابي المبالغَ، من اللهو والبغي والفساد، وأنلته أقصى ما يشتهي من شهواتِ الحياة الدنيا، فوجدت كل ذلك ضلالاً في ضلال وعبثاً في عبث وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وما جنيت من ورائِه إلا المرَّ والحنظل، من الأدواء والأسقام والبعد عن ملكوت الله وقدسيته، وكل ما تورثه المعاصي
من الدنس والطَّبَعِ والرَّيْنِ، وإنَّ في ذلك لعبرةً لمن اعتبر.
وقال هشام بن عبد الملك - وهو من الأبيات المنفردة القائمة بنفسها -:
إذا أنْتَ لم تَعْصِ الهوَى قادَكَ الهوى ... إلى بَعْضِ ما فيهِ عليكَ مَقالُ
وهذا بكلام الملوكِ أشبه، ومن كلمة للسيدة عائشة رضي الله عنها: من أرضى اللهَ بإسخاطِ الناس، كفاه اللهُ ما بينه وبين الناس، ومن أرضى الناسَ بإسخاطِ الله وكَلَه اللهُ إلى الناس، ومن أصلح سريرتَه، أصلح اللهُ علانيَّته. وفي حديث الدعاء: لا تكلني إلى نفسي طَرْفةَ عينٍ فأهلك. . . تولانا اللهُ برعايته الصّمدانيّة إنّه سميعُ الدعاء. . . 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید