المنشورات

معنى الشكر

والشكر: مقابلةُ النعمةِ بالقولِ والفعلِ والنيةِ، فيثني المُنْعَم عليه على المُنْعِم بلِسانه، ويذيبُ نفسَه في طاعته، ويعتقد أنّه موليها؛ وهو من شَكَرَت الإبل تَشْكُرُ: إذا أصابت مرعىً فسَمِنَتْ عليه. وإذن يكون معنى شُكْرِ العبدِ لربّه: أن يجهدَ العبدُ جُهْدَه في طاعةِ الله، ويؤدّي ما وظّف اللهُ عليه من عبادته، ويعتقد أنّه هو وحده وليُّ نعمته، وأن يكثرَ من الثناءِ عليه عزَّ وتقدَّس. . . وقد جاء الشكور وصفاً للهِ عزّ وجل، ومعناه أنه يزكو عندَه القليلُ من أعمالِ العبادِ فيُضاعفُ لهم الجزاءَ، وقد يكون معناه: المغفرة. . . هذا؛ وإنَّ فرقاً بين الشكرِ والحَمْدِ، فالشكرُ لا يكونُ إلا عن يدٍ، والحمدُ عن يدٍ وعن غيرِ يدٍ وأنشدوا لأبي نُخَيْلةَ: 

شكَرْتُكَ إنَّ الشُّكْرَ حبْلٌ من التُّقَى ... وما كلُّ مَنْ أَوْليْتَه نِعمَةً يَقْضِي
فنبَّهْتَ من ذِكرِي وما كان خامِلاً ... ولكنَّ بعضَ الذِّكْرِ أنْبَهُ من بَعْضِ
قال ابن سيده: وهذا يدلُّ على أنَّ الشكرَ لا يكون إلا عن يدٍ، ألا تراه يقول: وما كلُّ من أوليته نعمةً يقضي؟ أي ليس كلُّ من أوليته نعمة يشكرك عليها. . . ويقال: شكرَه وشكرَ له، وباللام أفصح، وتقول: شكرت نعمة الله، ولنعمته: وتشكر له بلاءَه، كشكره، وتشكر له مثل شكر له، هذا خلاصة ما قاله علماء اللغة. وقال أبو البقاء فيما قال، إذ أطال: الشكر: عرفانُ الإحسان، ومن الله المجازاة، وأصل الشكر: تصوُّر النعمةِ وإظهارُها وحقيقتُه: العجزُ عن الشكر، إلى أن قال: والشكر العُرْفيُّ: صَرْفُ العبد جميعَ ما أنعم الله به عليه من السمع والبصر والكلام وغيرها، إلى ما خُلِقَ له وأُعطاه لأجله، كصرف النظر إلى مصنوعاته، والسمعِ إلى تلقي إنذاراته، والذهن إلى فهم معانيها، وعلى هذا القياس، وقليلٌ ما هم، إلى أن قال: وتوفية شكرِ الله صعبٌ، ولذلك لم يُثْنِ بالشكر من أوليائه إلا على إبراهيمَ صلوات الله عليه، إذ قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}؛ وعلى نوح عليه السلام إذ قال: إنه كان عبداً شكوراً. . . ونزيد هذا توكيداً وتبييناً بإيراد كلمة الراغب في الذّريعة، قال
الراغب - مع شيءٍ من التصرف -: الشكر تصوُّر المُنْعَمِ عليه النِّعمةَ، وإظهارُها، ويضادُّه الكفرُ، وهو - أي الكفر - من كفر الشيء: غطّاه، ودابةٌ شكور: أي مظهرةٌ بسِمَنِها إسْداءَ صاحبِها إليها؛ وقيل: أصله من عينٌ شكرى: أي ممتلئة، فالشكر هو: الامتلاء من ذكرِ المُنْعَم عليه المُنعِمَ، ومن هذا الوجه قيل: هو أبلغ من الحمدِ، لأن الحمد ذكر الشيء بصفاته، والشكر: ذكرُ الشيء بصفاته وبنعمه، فالشكر على ثلاثة أضرب: شكرٌ بالقلب، وهو تصوّر النعمة، وشكر باللسان، وهو الثناء على المُنْعِم، وشكر بسائر الجوارح، وهو مكافأتُه بقدر استحقاقِه، وهو أيضاً باعتبارِ الشاكرِ والمشكور: ثلاثة أضرب: شكر الإنسان لمن هو فوقَه، وذلك يكون بالخدمة والثناء والدعاء، وشكرٌ لنظيره، وهو بالمكافأة، وشكرٌ لمن هو دونه، وهو بالثواب والإفضال. وشكر العبد لله سبحانه هو: معرفةُ نعمته وحفظ جوارحه بمنعها من استعمال ما لا ينبغي. ثم قال: وشكر المنعم في الجملة واجبٌ بالعقل، كما هو بالشرع، - وهذه مسألةٌ كلامية انظرها في كليات أبي البقاء، - وأوجبُها شكرُ الباري تعالى، ثم شكر من جعلَه سبباً لوصول خيرٍ إليك على يدِه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يشكرُ اللهَ من لم يشكرِ الناس)، قال: وقال بعضهم: كلُّ نعمةٍ يمكن شكرُها إلا نعمةَ الله، فإن شكرَ نعمته نعمةٌ منه، فيحتاج العبدُ أن يشكرَ نعمةَ الشكر، كما شكر أصل النعمة، وهكذا حتى يؤدّي ذلك إلى ما لا يتناهى، ومن هذا أخذ الشاعرُ الذي يقول:
إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نِعمةً ... عليَّ له في مِثْلِها يَجِبُ الشُكرُ
فكيف بُلوغُ الشّكرِ إلا بفَضْلِه ... وإن طالَتِ الأيّامُ واتّصَلَ العُمْرُ 

ولهذا قيل: غايةُ شكرِ اللهِ تعالى الاعترافُ بالعجز عنه، بل قد قال الله تعالى: وإنْ تعدّوا نعمةَ اللهِ لا تحصوها، وأيضاً فكل ما يفعل اللهُ بعبده فهو نِعْمةٌ منه، وإن كان بعضُ ذلك يعدُّ بليةً، ولهذا قال بعض الصالحين: يا من منعُه عطاءٌ وبلاؤُه نعماءُ. . . ولأجلِ صعوبةِ شكر الله قال عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. . . 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید