المنشورات

عبقريات شتّى في الشكر

قال أبو ذرٍّ: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجلُ يعملُ العملَ ويحبُّه الناسُ؟ قال: تلك عاجِلُ بُشْرى المُؤْمن. . . وقال صلواتُ الله عليه: إذا أردْتم أن تعلموا ما للعبدِ عند الله فانْظُروا ماذا يتبعُه من الثناء. . . 

وقال شاعرٌ:
عُثْمانُ يَعْلمُ أنّ الحمدَ ذُو ثَمنٍ ... لكنّه يَشْتَهي حَمْداً بمَجّانِ
والناسُ أكْيَسُ مِنْ أنْ يَحْمَدوا رَجُلاً ... حتّى يَرَوا قَبْلَه آثارَ إحْسانِ
وقال معاوية بن أبي سفيان يعاتب قريشاً:
إذا أنا أعْطَيْتُ القليلَ شَكوْتُمُ ... وإنْ أنا أعْطيتُ الكثيرَ فلا شُكْرُ
وما لُمْتُ نفسي في قضاءِ حُقوقِكم ... وقدْ كانَ لي فيما اعْتذَرْتُ به عُذْرُ
وأمْنَحُكمْ مالي وتُكْفَرُ نِعْمَتي ... وتَشْتِمُ عِرْضِي في مَجالِسِها فِهْرُ
إذا العُذْرُ لم يُقْبَلْ ولم يَنْفَعِ الأَسَى ... وضاقَتْ قلوبٌ مِنهُمُ حَشْوُها الغِمْرُ
فكيفَ أُداوي داَءكم ودَواؤُكم ... يَزيدُكم غَيّاً! فقَدْ عَظُمَ الأمْرُ
سَأَحْرِمُكمْ حتّى يَذِلَّ صِعابُكُمْ ... وأبْلَغُ شَيْءٍ في صلاحِكُمُ الفَقْرُ
وقال ابنُ الرومي:
كَمْ مِنْ يَدٍ بَيْضَاَء قدْ أَسْدَيْتَها ... تَثْني إليْكَ عِنانَ كُلِّ وِدَادِ
شَكَرَ الإلهُ صَنَائِعاً أوْلَيْتَها ... سَلَكَتْ مع الأرْواحِ في الأجسادِ
وقال الشّريف الرضيُّ:
أَلْبَسْتَني نِعَماً على نِعَمِ ... وَرَفَعْتَ لي عَلَماً على عَلَمِ
وعَلَوْتَ بي حتَّى مَشَيْتُ على ... بُسُطٍ مِنَ الأعْنَاقِ والقِمَمِ
فلأشْكُرَنَّ يَدَيْكَ ما شَكَرَتْ ... خُضْرُ الرِّياضِ مَصَانِعَ الدِّيَمِ 

فالحمدُ يُبْقِي ذِكْرَ كُلِّ فتًى ... ويُبينُ قدْرَ مَوَاقِعِ الكَرَمِ
والشُّكْرُ مَهْرٌ لِلصَّنيعَةِ إنْ ... طُلِبَتْ مُهُورُ عَقائِلِ النِّعَمِ
القمم جمع قِمّة: أعلى الرأس وأعلى كل شيء، والديم جمع ديمة: المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق يدوم ثلث نهار أو ثلث ليل فأكثر، والصنيعة: ما أسديت من معروف، والعقائل: كرائم الأموال وقال رجل لبعض ذوي السلطان: المواجهةُ بالشكر ضَرْبٌ من المَلَقِ، منسوبٌ من عُرف به إلى التَّخَلُّقِ، وأنْتَ تمنعني من ذلك، وترفع الحال بيننا عنه، ولذلك تَرَكْتُ لِقاءَك به، غيرَ أنّي مِن الاعترافِ بِمَعْروفِك، ونَشْرِ ما تطوي منه، والإشادة بذكره عند إخوانك، والانتساب إلى التقصير مع الإطناب في وصفه، على ما أرجو أن أكون قد بلغتُ به حالَ المُحْتمل للصَّنيعة النّاهض بحقِّ النِّعْمَةِ. وقال أبو يعقوب الخُرَيميُّ:
زادَ مَعْروفَك عِندِي عِظَماً ... أنَّهُ عِنْدَكَ مَحْقُورٌ صَغِيرُ
تتناساهُ كأنْ لمْ تأتِهِ ... وهْوَ عند الناسِ مَشهورٌ كبيرُ
وقال بعضُهم: لا تَثِقْ بِشُكْرِ مَنْ تُعطيه حتّى تمنعَه، فإن الصابر هو الشاكرُ، والجازعَ هو الكافرُ. . . وقال الشاعر:
إذا أنا لم أشْكُرْ على الخَيْرِ أهْلَهُ ... ولمْ أذْمُمِ الجِبْسَ اللَّئيمَ المُذَمَّمَا
ففِيمَ عَرفْتُ الخَيْرَ والشَّرَّ باسْمِهِ ... وشَقَّ ليَ اللهُ المَسامِعَ والْفَمَا
وقال ابنُ التَّوْءَم: كلُّ مَنْ كان، جودُه يرجع إليه، ولولا رجوعُه إليه لَما جاد عليك، ولو تهيّأ له ذلك المعنى في سواك لما قصد إليك، فليس يجب له عليك شكرٌ، وإنما يوصف بالجود في الحقيقة ويشكر على النفع في حُجّة العقل، الذي إن جاد عليك فلك جاد، ونفعك أراد، من غير أن يرجع إليه جودُه بشيءٍ من النفع على جهةٍ من الجهات، وهو اللهُ وحدَه لا شريكَ له، فإن شكرنا الناسَ على بعض ما جرى لنا على أيديهم، فلأمرين: أحدُهما التعبّد، وقد أمر الله تعالى بتعظيم الوالدين وإن كانا شيطانين، وتعظيمِ من هو أسنُّ منّا وإن كنّا أفضلَ منه. والآخر: لأن النفسَ ما لا تُحصِّلُ الأمور وتميّز المعاني، فالسابق إليها حبُّ مَنْ جرى لها على يديه الخير وإن كان لم يُردْها ولم يقصد إليها. ألا ترى أنّ عطيةَ الرجلِ صاحبَه لا
تخلو أن تكونَ لله أو لغير لله، فإن كانت لله فثوابُه على الله، وكيف يجب في حُجّة العقل شكرُه وهو لو صادف ابن سبيلٍ غيري لما أعطاني، وإمّا أن يكونَ إعطاؤه إيّاي للذكر، فإن كان كذلك فإنّما جعلني سُلّماً إلى حاجته وسبباً إلى بُغيته، أو يكون إعطاؤه إيّاي طلباً للمكافأة فإنما ذلك تجارةٌ، أو يكون إعطاؤه لخوفِ يدي أو لساني أو اجترار معونتي ونُصرتي، وسبيلُ هذا معروف، أو يكون إعطاؤه للرحمة والرقَّة ولما يجد في فؤادِه من العَصْرِ والألم، فإنّما داوى بتلك العطية من دائِه، ورفَّه من خِناقه. . . وقال بشار بن برد:
أُثْني عليكَ ولي حالٌ تُكَذِّبُني ... فيما أقولُ فأسْتَحْيي من الناسِ
قد قلتُ إنّ أبا حَفْصٍ لأكرمُ مَنْ ... يَمْشي فخاصَمني في ذاكَ إفلاسي
وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها كثيراً ما تتمثل بقول الشاعر:
يَجْزِيكَ أو يُثْني عليكَ وإنّ مَنْ ... أَثْنى عليك بما فعلْتَ كَمَنْ جَزى
وقالوا: خمسةُ أشياءَ ضائعةٌ: سراجٌ يوقد في شمسٍ، ومطرٌ جَوْدٌ في سَبْخةٍ، وحَسناءُ تزفُّ إلى عِنّينٍ، وطعامٌ استُجيد وقُدِّم إلى سكران، ومعروفٌ صُنِعَ إلى من لا شُكْرَ له. . . 









مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید