المنشورات
الحزن يبلى بتقادم العهد
وقالوا في الحزن يبلى بعد انقضاءِ مدّة: الحزن ينضو عن ابن آدم كما ينضو الصبغ عن الثوب ولو بقي لقتَلَه.
وقال المتنبّي:
إذا اسْتَقْبَلَتْ نَفْسُ الكَرِيمِ مُصابَها ... بِخُبْثٍ ثَنَتْ فاسْتَدْبَرَتْهُ بِطيبِ
وللواجِدِ المكروبِ من زَفَراتِه ... سُكونُ عَزاءٍ أو سُكونُ لُغُوبِ
قوله: إذا استقبلت. . . البيت، فالمصاب مصدرٌ بمعنى الإصابة، والخبث هنا: الجزع، والطيب هنا: الصبر وترك الجزع، وثنَتْ: صرفته - أي الجزع - النفس، يقول: إذا جزع الكريم - ضدُّ اللئيم - في أول نزول المصيبة، وراجع أمرَه، عاد إلى الصَّبْر والتسليم، ومن لم يوطّن نفسَه على المصيبة في أوّل الأمر صَعُبَ عليه عند وقوعها. وقوله: وللواجد المكروب. . البيت يقول: لا بدُّ للمحزونِ من سكون، إمّا أن يَسْكنَ عزاءً، أو يَسْكنَ إعياءً، وإذن فحقيقٌ بالعاقل أن يسكنَ تعزّياً، كما قال محمود الوراق:
إذا أنْتَ لمْ تَسْلُ اصْطِباراً وحِسْبَةً ... سَلَوْتَ على الأيّامِ مِثْلَ البَهائِمِ
وكما قال أبو تمام:
أتصْبِرُ لِلْبَلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً ... فتُؤْجَرَ أمْ تَسْلو سُلُوَّ البَهائِمِ
الحِسْبة: طلب الأجر والثواب.
ومن أحسن ما قيل من الشعر القديم، في أنَّ الحزن يبلى إذا تقادم عهدُه قول أبي خراش الهُذلي - شاعر مخضرم أسلم وهو شيخٌ كبير، يوم حنين -:
على أنّها تَعْفُو الكُلومُ، وإنّما ... نُوَكَّلُ بالأدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضِي
وقبل هذا البيت:
حَمِدْتُ إلَهي بَعدَ عُرْوَةَ إذْ نَجا ... خِرَاشٌ، وبعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعضِ
فواللهِ: ما أنْسَى قَتِيلاً رُزِئْتُهُ ... بِجَانِبِ قُوسَى ما مَشَيْتُ على الأرْضِ
على أنّها تعفو الكُلومُ. . . البيت
ولَمْ أدْرِ مَنْ ألْقَى عليه رِداَءهُ ... على أنّه قَدْ سُلَّ عن ماجِدٍ مَحْضِ
وكان من حديث هذا الشعرِ، أنَّ عروةَ بنَ مُرّة أخا أبي خِراش، وخِراشَ بن أبي خِراش، اصطحبا في متصرَّف لَهما؛ فأسرهما بطنانِ من ثُمالة: بنو رازم وبنو بلال - وكانا موتورين - فاختلفوا في الإبقاءِ عليهما وقتلهما، فمال بنو بلال إلى قتلهما، وتفاقم الأمرُ بينهما في ذلك، إلى أن صار يؤدي إلى المقاتلة، فتفرّد أولئك بعروةَ فقتلوه، وتفرّد هؤلاء بخِراشٍ فخلا به واحدٌ منهم، منتهزاً للفرصة في الإسداء، فقال له: كيف دليلاكَ؟ فقال: قَطاةٌ، فألقى عليه رداءَه، وقال: انْجُهْ، فمَرَّ لِطِيَّتِه، فلمّا انحرفوا للنظرِ في أمره قال لهم ممسكُه! إنّه أفلت، فطردوه - أي تبعوا خِراشاً - فأعياهم، فلما وصل خِراش إلى أبيه وخبّره بما جرى على عروةَ وبما اتفق من صاحبه في بابه، اقتصَّ قصَّته في هذه الأبيات. . . وقُوسى اسمُ مكان، وقوله: على أنّها تعفو الكلوم. . . البيت فإنَّ هذا يجري مَجْرى الاعتذارِ منه والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله: لا أنسى قتيلاً رُزِئْته ما مشيت على الأرض أي مدّة حياتي؛ والضمير في أنها: للقصة، وخبر أن: الجملة بعدها؛ والعَفاء: الدّروس والذهاب؛ والكلوم جمع كَلم، ويعني به: الحَزَّ عند ابتداء الفجيعة، وجلّ: عظم؛ يقول: لا أنساه ولو طال عهدُه وعفَت آثاره؛ وإنما قال هذا لأن الإنسان يوكَّل بالجزع للمصيبة القريبة العهد؛ فأمّا المتقادمُ من الأرزاءِ فإن مضيَّ الزمن يُعْفيه. وقوله: ولم أدرِ. . . البيت؛ قال الأصمعيُّ وأبو عبيدةَ لا نعرف من مدحَ مَنْ لا يعرفه غيرَ أبي خراش.
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
5 نوفمبر 2024
تعليقات (0)