المنشورات

عروة بن الزبير مثل أعلى للصبر والتأسي

كان عُروةُ بن الزُّبَير، أحدُ الفقهاء السبعة بالمدينة، وابنُ الزبير بن العوّام - أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وابنِ صفيَّةَ عمَّةِ سيدنا رسول الله - وشقيقُ عبد الله بن الزبير - الذي وَلِيَ الخلافة في الحجاز حيناً من الدهر أزمانَ بني أميَّة والذي تولّى قتله الحجّاج - وأمُّ عروةَ أسماءُ بنت أبي بكر الصديق - وهي ذاتُ النِّطاقَين، وخالتُه عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها، وكان عالماً صالحاً، أقول: كان عروةُ هذا من قوّة الإيمان والتسليم
والرَّضا بالقدر خيرِه وشرِّه ورجَحان العقلِ، بحيث يعدُّ مثلاً أعلى للصَّبر والتسلّي، وذلك أنّه وَفَدَ من المدينة على الوليد بن عبد الملك بدمشق - عاصمة الأمويين - وكان معه ابنُه محمّد - وكان من أجمل الناس، فيقال: إن الوليدَ عانَه - أصابَه بعينِه - فدخل محمد دارَ الدّواب، فضربتْه دابّةٌ فخَرَّ ميِّتاً، ووقعت في رجلِ عُروةَ الأكِلَة - داءٌ في العضو يأتَكِلُ منه - ولم يَدَعْ وِرْدَه تلك الليلة، فقال له الوليد: اقْطَعْها وإلا أفْسَدَت عليك جسدَك، فلما دُعِيَ الجزّارُ ليقطعَها قال له: نسقيك الخمرَ حتّى لا تجدَ لذلك ألَماً، فقال: لا أستعينُ بحرامِ اللهِ على ما أرْجو من عافيتِه، قالوا: نسقيك المُرْقِدَ دواءٌ يرقد شاربَه كالأفيون قال: ما أحبُّ أن أسلَبَ عُضواً من أعضائي وأنا لا أجدُ ألمَ ذلك فأحتسبه أحتسبه: أطلبُ به الأجرَ. ودخل عليه قومٌ أنكرهم فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يُمسكونَك فإنَّ الألمَ ربّما يَعْزُبُ معه الصبر يعزب: يبعد قال: أرجو أن أكفيَكم ذلك من نفسي، فقُطِعَتْ كعبُه بالسكّين، حتّى إذا بلغ العظمَ وُضِعَ عليها المنشارُ، فقُطِعَتْ وهو يهلِّل ويكبّر يهلل: يقول: لا إله إلا الله، ويكبّر: يقول: الله أكبر ثمّ إنّه أغليَ له الزيتُ في مَغارفِ الحديد، فحُسِمَ به، فغشِيَ عليه، فأفاقَ وهو يمسح العرقَ عن وجْهِه، ولمّا رأى القدمَ بأيديهم دعا بها فقلَّبها في يده، ثم قال: أما والذي حَملَني عليك، إنّه ليعلم أنّي ما مشيتُ بك إلى حرامٍ، ولمّا دخل ابنه إصطبلَ الوليد بن عبد الملك وقتلتْه الدَّابّة كما تقدَّم لَمْ يُسْمَعْ في ذلك منه شيءٌ إلا قوله {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ولمّا قُطِعت رجلُه قال: اللهمَّ، إنّه كان لي أطرافٌ أربعةٌ فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثةً، فلك الحمد، وأيْمُ اللهِ، لئن أخذْتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لقد عافيتَ. . . ولمّا مات ابنُه وقطعت رجلُه، وفد في هذه الأيام على الوليد قومٌ من بني عبس فيهم رجلٌ ضرير، فسأله الوليد عن عينيه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، بتُّ ليلةً في بطن وادٍ ولا أعلم عَبْسيّاً يزيدُ مالُه على مالي، فطرقنا سيلٌ فذهبَ بما كان لي من أهلٍ وولدٍ ومالٍ، غيرَ بعيرٍ وصبيٍّ مولود، وكان البعير صَعْباً، فنَدَّ، فوضعت الصبيَّ واتَّبعتُ البعيرَ فلم أجاوِزْ إلا قليلاً حتّى سمعتُ صيحةَ ابني ورأسُه في فَمِ الذئبِ وهو يأكلُه، فلَحِقْتُ البعيرَ لأحبسَه فنفَحني برجلِه ضربَه بحدِّ خُفّيه على وجهي، فحطَّمه وذهب بعينيّ؛ فأصبحتُ لا مالٌ لي ولا أهلٌ ولا ولدٌ ولا بصرٌ؛ فقال الوليد: انطلقوا به إلى عُروةَ ليعلمَ أنّ في الناسِ من هو أعظمُ منه بلاءً. . .
وممّن عزّى عروة: إبراهيمُ بن محمد بنِ طلحة قال له: والله ما بك حاجةٌ إلى المشيِ ولا
أربٌ في السَّعْيِ؛ وقد تقدّمك عضوٌ من أعضائك وابنٌ من أبنائك؛ إلى الجنّة؛ والكل تَبَعٌ للبعض، إنْ شاء الله تعالى؛ وقد أبقى اللهُ لنا منك ما كنّا إليه فقراءَ، وعنه غيرَ أغنياء؛ من علمِك ورأيِك؛ نفعك اللهُ وإيّانا به واللهُ وليُّ ثوابِك؛ والضمينُ بحسابِك. . . 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید