المنشورات

عبقريّاتٌ شتى في الدنيا

قال أبو حازم: وما الدُّنيا! أمّا ما مضى فَحُلمٌ وأمّا ما بقيَ فأمانيُّ، وقال بكر بنُ عبد الله: المُسْتغني عن الدُّنيا بالدُّنيا كالمُطْفئ النّارَ بالتِّبْنِ. وقال ابنُ مسعود: الدُّنيا كلُّها غُموم، فما كان فيها من سرورٍ فهو رِبْح.
وقال بعضُ الحُكماء: مثلُ الدُّنيا والآخرةِ مثلُ رجلٍ له ضرّتان إنْ أرْضى إحداهُما أسخطَ الأخرى. . . وقال سُفيانُ الثّوريُّ: تَركَ الملوكُ لكم الحكمةَ فاتركوا لَهُم الدُّنيا. وقال يحيى بن خالد البرمكيّ: دخلنا في الدُّنيا دُخولاً أخْرَجَنا منها. وكان الحسن البصريُّ كثيراً ما يتمثل كلّما جرى ذِكْرُ الدُّنيا -:
اليومَ عِندَكَ دَلُّها وحَديثُها ... وغداً لغيرِك كَفُّها والمِعْصَمُ
وهذا البيت كذلك يُقال في غدرِ المَرْأةِ وقلَّةِ وفائِها. وكان إبراهيمُ بنُ أدْهَمَ العِجليُّ يقول:
نُرَقِّعُ دُنْيانا بتَمْزيقِ دينِنا ... فلا دِينُنا يَبْقى ولا ما نُرَقِّعُ
وقال السيد المسيح: أنا الذي كَفَأتُ الدُّنيا على وجهِها، فليست لي زوجةٌ تَموتُ ولا بيتٌ يَخْربُ. وقيل لمحمد بنِ واسع: إنّك لتَرْضى بالدُّون فقال: إنّما رَضِيَ بالدُّون من رَضِيَ بالدُّنيا. . . وقالت امرأةٌ لزوجِها ورأتْه مَهْموماً: مِمَّ هَمُّك؟ أبالدُّنيا فَقَدْ فَرَغ اللهُ منها أم بالآخرةِ فزادَك اللهُ همَّاً؟ وقال السيد المسيح: حبُّ الدُّنيا أصلُ كلِّ خطيئةٍ والمالُ فيها داءٌ كثير، قيل: ما داؤه؟ قال: لا يسلمُ صاحبُه من الفخرِ والكِبْر، قيل: وإن سَلِمَ؟ قال: يَشْغلُه إصلاحُه عن ذكرِ الله. وقال سيدنا رسولُ الله: (مَنْ أصبحتِ الدُّنيا همَّه وسَدَمَه نَزعَ اللهُ الغِنى من قلبِه، وصيَّرَ الفقرَ بينَ عَيْنَيْه ولَمْ يأتِه من الدُّنيا إلا ما كُتِبَ له؛ ومَنْ أصْبَحتِ
الآخرةُ همَّه وسَدَمَه نَزَعَ اللهُ الفقرَ من قلبِه وصيَّرَ الغِنى بين عَيْنَيْه وأتَتْه الدُّنيا وهي راغِمة). . . وقال سيدنا رسولُ اللهِ للضَّحاك بنِ سُفيان: (ما طعامُك؟ قال: اللَّحْمُ واللَّبنُ قال: ثمَّ يَصيرُ إلى ماذا؟ قال: ثمَّ يصيرُ إلى ما قد عَلِمْتَ، قال: فإن اللهَ ضربَ ما يَخْرجُ من ابْنِ آدمَ مثلاً للدنيا). . وكان بِشْرُ بنُ كعبٍ يقول لأصحابِه إذا فرغ من حديثِه: انطلقوا حتّى أريكُمُ الدُّنيا، فيَجيءُ فيقفُ بهم على السُّوق، وهي يَوْمَئذٍ مَزْبلةٌ، فيقول: انْظُروا إلى عَسَلِهم وسَمْنِهم وإلى دجاجِهم وبَطِّهم صارَ إلى ما تَرَوْن.
وقال محمدُ بن وهيب:
نُراعُ لِذِكْرِ الموتِ ساعةَ ذِكْرِه ... وتَعْترِضُ الدُّنيا فنَلْهو ونَلْعَبُ
ونَحْنُ بَنُو الدُّنيا خُلِقْنا لِغَيْرها ... وما كنْتَ مِنْه فَهْوَ شَيْءٌ مُحَبَّبُ
يَقينٌ كأنَّ الشَّكَّ غالِبُ أمْرِه ... عليهِ وعِرفانٌ إلى الجَهْلِ يُنْسَبُ
أقول: لعلّه ينظرُ إلى قول جرير:
تُرَوِّعُنا الجَنائِزُ مُقْبِلاتٍ ... فنَلْهُو حينَ تَذْهَبُ مُدْبِرَاتِ
كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لمُغارِ ذِئْبٍ ... فلَمّا غابَ عادَتْ راتِعاتِ
قال أبو عمرو بن العلاء: جلستُ إلى جَريرٍ وهو يُمْلي:
وَدّعْ أُمامةَ حانَ مِنك رَحِيلُ
ثمَّ طلَعَتْ جِنازةٌ فأمْسَكَ وقال: شَيَّبَتْني هذه الجَنائِزُ، قلت: فلِمَ تُسابُّ النّاس! قال: يَبْدؤونَني ثَمَّ لا أعْفو وأعْتَدي ولا أبْتَدي، ثمَّ قال هذين البيتين. . . وقول محمد بن وهيب: يقينٌ كأنَّ الشكَّ غالِبُ أمْرِه. . . البيت فمَأخوذٌ من قولِ الحسنِ البصريّ: ما رأيْتُ يقيناً لا شكَّ فيه أشْبَهَ بِشَكٍّ لا يقينَ فيه، إلا الموت. . . 

وقال أحدُ الظُّرفاء: إنَّ الدُّنيا قد اسْتَودَقَتْ وأنْعَظَ الناس: اسْتَوْدَقَتْ يقال: وَدَقَت الفرسُ تَدِقُ وَدْقاً واسْتَوْدَقَتْ: إذا طلَبَتِ الفَحْلَ وقال حكيم: مَنْ أرادَ الدُّنيا فلْيَتَهيَّأ للذلّ. ومن كلمةٍ لعليِّ بن أبي طالب: أهلُ الدُّنيا كَرَكْبٍ يُسارُ بِهِمْ وهم نِيام. ومن كلامِه رضِيَ اللهُ عنه - وقد قال له رجلٌ وهو في خُطبة: يا أميرَ المؤمنين، صِفْ لنا الدُّنيا فقال: ما أصِفُ من دارٍ أوَّلُها عَناءٌ وآخِرُها فناءٌ، في حَلالِها حسابٌ وفي حرامِها عِقابٌ، مَنْ صحَّ فيها ما أمِنَ، ومَنْ مَرِضَ نَدِمَ ومن اسْتَغْنى فُتِنَ، ومَنِ افتقرَ فيها حَزِنَ! وقال أيضاً: إنَّما المرءُ في الدنيا
غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فيه المَنايا، ونهبٌ للمَصائبِ، ومع كلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وفي كلِّ أُكْلَةٍ غَصَصٌ، ولا ينال العبدُ فيها نعمةً إلا بفِراق أخرى، ولا يستقبل يوماً من عُمْرِه إلا بهَدْمِ آخرَ مِنْ أجَلِه، فنحنُ أعوانُ الحُتوفِ، وأنفسُنا تسوقُنا إلى الفَناء، فمن أين نَرْجو البَقاء! وهذا الليلُ والنهارُ لم يَرْفعا من شيءٍ شَرَفاً إلا أسرعا الكرَّةَ في هَدْمِ ما بَنَيا، وتفريقِ ما جَمَعا، فاطلبوا الخيرَ وأهلَه، واعْلَموا أنَّ خيراً من الخيرِ مُعْطيه، وشَرّاً من الشَّرِّ فاعِلُه. . . الغرض: الهدف، والنّهب: المالُ المنهوبُ غنيمةً والجمعُ نِهابٌ وقد تقدّم شرحُ الجرعة والشرق والغصص، وقولُه: فنحنُ أعوانُ الحتوفِ فالحتف: الموت، ومعنى أنّنا أعوانُ الموتِ: أنّا نأكلُ ونشربُ ونُجامع ونركب الخيل والسفن والطائرات ونحوها ونتصرّف في أسبابِنا وحاجِنا ومآربِنا، والموتُ إنّما يكونُ بأحدِ هذه الأمور إمّا من أخلاطٍ تُحدثها المآكل والمشارب، أو مِنْ سقطةٍ يسقط الإنسانُ من دابّةٍ هو راكبُها أو من ضعفٍ يلحَقُه من الجِماعِ المُفرط أو مُصادمات واصطكاكات تصيبُه عند تصرُّفه في مآربِه وحَرَكتِه وسَعْيِه ونحو ذلك، فكأنّا نحنُ أعنّا الموتَ على أنفُسِنا.
وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: مالكَ من عَيْشِك إلا لَذَّةٌ تَزْدَلِفُ بك إلى حِمامِك وتقرِّبُك من يومِك، فأيَّةُ أكلةٍ ليس معها غصصٌ أو شَرْبةٍ ليس معها شَرَق! فتأمّل أمْرَك فكأنّك قد صِرْتَ الحبيبَ المفقودَ والخيالَ المُخْتَرمَ، أهلُ الدُّنيا أهلُ سَفَرٍ لا يَحُلّون عقدَ رِحالِهم إلا في غيرِها قوله: تَزْدَلِفُ بك إلى حِمامك: أي تقرِّبك إلى موتِك، والمُخْتَرم المُسْتأصَل والمُقْتَطَع.
وقال حكيم: مَنْ ذا الذي يَبْني على موجِ البَحْرِ داراً! تِلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخِذوها قَراراً. . . وقيل لبعض الرُّهبان: كيف ترى الدَّهرَ؟ قال: يُخْلِقُ الأبدانَ، ويجدِّد الآمالَ، ويقرِّب المنيّة، ويباعدُ الأمنيّة، قيل: فما حالُ أهلِه؟ قال: مَنْ ظَفِرَ به تَعِب، ومن فاتَه اكْتأبَ، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ومَنْ يَحْمَدِ الدُّنيا لِعَيْشٍ يَسُرُّهُ ... فسَوْف لعَمْري عن قليلٍ يَلومُها
إذا أدْبَرَتْ كانَتْ على المَرْءِ حَسْرَةً ... وإنْ أقبلَتْ كانَتْ كثيراً همومُها
قال حكيم: مِن عَيب الدُّنيا أنها لا تعطي أحداً ما يستحقّ، إمّا أن تَزيدَ له وإمّا أنْ تَنقص. . . وقال أبو العتاهية:
تَعالى اللهُ يا سَلْمُ بنَ عمْروٍ ... أذَلَّ الحِرْصُ أعناقَ الرِّجالِ
هَبِ الدُّنْيا تُسَاقُ إليْكَ عَفْواً ... ألَيْسَ مَصيرُ ذاكَ إلى الزَّوالِ
وما دُنْيَاكَ إلا مِثْلُ فَيْءٍ ... أظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِانْتِقالِ
ولنجتزئ بهذا المقدار فعبقرياتهم في الدُّنيا لا يكاد يبلغُها الإحصاء. 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید