المنشورات
الاعتبار بمن مات من الكبار
قال عدِيُّ بنُ زيد العِباديُّ:
أيُّها الشَّامِتُ المُعيِّرُ بالدَّهْ ... ر أأنتَ المُبَرَّأُ الموْفورُ
أمْ لَدَيْكَ العهدُ الوَثيقُ من الأيَّا ... مِ بلْ أنْتَ جاهِلٌ مَغْرُورُ
مَنْ رَأيْتَ المَنُونَ خَلَّدْنَ أمْ مَنْ ... ذا عليه مِن أن يُضامَ خَفيرُ
أينَ كِسْرى كِسْرَى الملوكِ أنُوشَرْ ... وانَ أمْ أيْنَ قَبْلَهُ سابورُ
وبنُو الأصْفرِ الكرامُ ملوكُ الرُّ ... ومِ لَمْ يَبْقَ مِنهمُ مَذكورُ
وأخو الحَضْرِ إذْ بَناهُ وإذْ دِجْ ... لَةُ تُجْبى إليه والخابورُ
شادَهُ مَرْمَراً وجَلّله كِلْ ... ساً فلِلطَّيْرِ في ذُرَاهُ وُكورُ
لمْ يَهبْهُ رَيْبُ المَنونِ فبادَ الْ ... مُلكُ عَنه فبابُه مَهْجورُ
وتَذَكَّرْ رَبَّ الخَوَرْنَقِ إذْ أَصْ ... بَحَ يَوْماً ولِلْهُدَى تفْكِيرُ
سَرّهُ حَالُهُ وكَثْرةُ ما يَمْ ... لِكُ والبَحْرُ مُعْرِضاً والسَّديرُ
فارْعَوَى قلبُه فقال: وما غِبْ ... طَةُ حَيٍّ إلى المماتِ يَصيرُ
ثُمَّ بعدَ الفَلاحِ والمُلكِ وَالنِّعْ ... مَةِ وَارَتْهُمُ هُناكَ القُبورُ
ثُمَّ صاروا كأنّهم وَرَقٌ جَفَّ ... فَألْوَتْ بهِ الصَّبَا والدَّبورُ
وممّا كان يصحُّ أن يذكرَ في هذا الباب مرثية الوزير الشاعر الأندلسي عبد المجيد بن عبدون التي يرثي بها بني الأفطس - من ملوك الطوائف بالأندلس - وذكر فيها عدّة من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممّن أبادهم الدهرُ بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جُنَّةً تقيهم من وثباته، ودبَّت عليهم الأيامُ بصروفها، وسقتهم المنية بكأس حتوفها، ومطلعها:
الدَّهْرُ يَفْجَعُ بَعْدَ العَينِ بالأثَرِ ... فما البُكاءُ على الأشباحِ والصُّوَرِ
بيدَ أنّا لطولِها رأينا أن نضربَ عن إيرادِها هنا صَفْحاً، وتراها في المجلد الخامس من نهاية الأرب للنويري الذي قامت بطبعه دارُ الكتب المصرية. . . وقد شرحها ابنُ بدرون، ومن أبياتها:
فلا تَغُرَّنْكَ مِنْ دُنياك نُوْمَتُها ... فما صِناعَةُ عَيْنَيْها سِوَى السَّهَرِ
ما لِلَّيالي - أقالَ اللهُ عَثْرَتَنا ... مِن اللَّيالي وخانَتْها يدُ الغِيَرِ
في كُلِّ حِينٍ لها في كلِّ جارِحَةٍ ... منّا جِراحٌ وإنْ زاغَتْ عَنِ البَصَرِ
تَسُرُّ بالشَّيْءِ لكِنْ كيْ تَغُرَّ به ... كالأيْمِ ثارَ إلى الجاني مِن الثَّمَرِ
وقال المتنبّي:
أبَني أبينا نَحْنُ أهْلُ مَنازِلٍ ... أبَداً غُرابُ البَيْنِ فيها يَنْعِقُ
نَبْكي على الدُّنيا وما مِنْ مَعْشَرٍ ... جَمَعَتْهُمُ الدُّنيا فلَمْ يَتَفَرّقُوا
أيْنَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرةُ الأُلَى ... كَنَزُوا الكُنوزَ فَما بَقينَ ولا بَقُوا
مِنْ كلِّ مَنْ ضاقَ الفَضاءُ بِجَيْشِه ... حتّى ثَوَى فَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ
خُرْسٌ إذا نُودُوا كأنْ لمْ يَعْلَموا ... أنَّ الكلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطْلَقُ
والمَوْتُ آتٍ وَالنُّفوسُ نَفائِسٌ ... والمُسْتَغِرُّ بِما لَدَيْهِ الأحْمقَ
والمَرْءُ يَأمُلُ، والحَياةُ شَهِيّةٌ ... والشَّيْبُ أوْقَرُ، والشَّبيبةُ أنْزَقُ
أبني أبينا: يا إخوتَنا، يا بني آدم، وأراد بغُرابِ البين: داعي المَوْت يقول: نحن نازلون في منازل يتفرّق عنها أهلُها بالموت، فقوله: نبكي على الدنيا. . . البيت مثله قول جرير يرثي امرأته:
لا يَلْبَثُ القُرَناءُ أنْ يَتَفرَّقوا ... لَيْلٌ يَكُرُّ عليهِمُ ونَهارُ
وثوى - بالمثلّثة: أقامَ في القبر؛ وبالمثنّاة: هلك، وهذا البيتُ من قول أشْجَع:
وأصْبَحَ في لَحْدٍ مِن الأرْضِ ضَيِّقٍ ... وكانَتْ به حَيَّاً تَضِيقُ الصَّحاصِحُ
الصَّحاصِحُ جمع صَحْصَح: وأصله ما استوى من الأرضِ وكان أجردَ والمُسْتِغرُّ: المغرور، يقول في هذا البيت: النفوس يأتي عليها الموت وإن كانت عزيزة نفيسة لا يمنعه ذلك من أخذها، والأحمق هو المغرور بالدنيا وبما يجمعه فيها، أمّا العاقل فإنه لا يغتر بما جمعه لعلمه أنه لا يبقى هو ولا ما جمعه، وقوله: والمرء يأمل. . البيت يقول: المَرْءُ يرجو الحياةَ لطيبِها لديه، والشَّيبُ أكثرُ له وقاراً من الشّباب، يعني: أنَّ المرءَ يكره الشَّيبَ ويحبُّ الشبابَ والشيب خيرٌ له، لأنّه يكسبه الحِلمَ والأناةَ والوقارَ، والشبابُ شرٌّ له، لأنّه يحملُه على الطيشِ والنَّزقِ والحُمْق وقال الشاعر:
رُبَّ قَوْمٍ عَبَرُوا مِنْ عَيْشِهِمْ ... في نَعيمٍ وسُرورٍ وغَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زماناً عَنْهُمُ ... ثُمَّ أبكاهُمْ دَماً حين نَطَقْ
الغدق المراد به الخصب والسعة وقال مالك بن دينار:
أتيتُ القُبورَ فنادَيْتُهنَّ ... أينَ المُعَظَّمُ والمُحْتَقَرْ
وأيْن المُدِلُّ بِسُلْطانِه ... وأيْنَ المُزَكَّى إذا ما افْتَخَرْ
قال: فنوديتُ مِن بينِها ولا أرى أحداً:
تَفانَوْا جَميعاً فَما مُخْبِرٌ ... وماتوا جَميعاً وماتَ الخَبَرْ
تَرُوحُ وتَغْدُو بَناتُ الثَّرى ... وتَمْحُو مَحاسِنَ تلكَ الصُّوَرْ
فيا سائِلي عن أُناسٍ مَضَوْا ... أما لَكَ فيما تَرى مُعْتَبَرْ!
بناتُ الثرى: الدّود. . .
ونزل النعمانُ بنُ المنذر ومعه عَدِيُّ بنُ زَيدٍ العِبادِيُّ في ظل شجرةٍ عظيمةٍ ليلْهُوا: فقال له عديّ: أتَدْري ما تقولُ هذه الشجرةُ؟ قال: لا، قال: تقول:
رُبَّ رَكْبٍ قدْ أناخُوا حَوْلَنا ... يَمزُجُونَ الخَمْرَ بالماءِ الزُّلالِ
ثُمَّ أضْحَوْا عَصَفَ الدَّهْرُ بِهِمْ ... وكَذاكَ الدَّهْرُ حالاً بَعْدَ حالِ
ونظرت امرأةٌ إلى جعفر بنِ يحيى البَرْمكيِّ وزيرِ الرشيد، وهو مصلوبٌ فقالت: لئِن كنتَ في الحياة غايةً فلقد صِرْت في المَمات آيةً. . . ولما مات الإسكندرُ المقدونيُّ وقف عليه أرسطو الفيلسوف فقال: طالما كان هذا الشخصُ واعِظاً بليغاً، وما وَعَظَ بموعظةٍ في حياتِه أبلغَ من عِظَتِه في مَماتِه، أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال:
وكانَتْ في حَياتِكَ لي عِظَاتٌ ... وأنْتَ اليومَ أوْعَظُ مِنكَ حيَّا
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
8 نوفمبر 2024
تعليقات (0)