المنشورات
الموت لا يُتحرّز منه بشيء ولو كان الطِّبَّ
قال المتنبي:
يموتُ راعي الضأنِ في جَهْلِهِ ... مَوْتَةَ جالينُوسَ في طِبِّهِ
ورُبَّما زَادَ على عُمْرِه ... وزادَ في الأمْنِ على سِرْبِهِ
وقبل هذين البيتين:
لا بُدَّ للإنسانِ مِن ضَجْعةٍ ... لا تَقْلِبُ المُضْجَعَ عن جَنْبِهِ
يَنْسَى بها ما كان مِنْ عُجْبِهِ ... وما أذاقَ الموْتُ مِن كَرْبِهِ
نَحْنُ بنو الموْتى فما بالُنا ... نَعافُ ما لا بُدَّ مِنْ شُرْبِهِ
تَبْخَلُ أيدينا بأرْواحِنا ... على زمانٍ هيَ من كَسْبِهِ
فهذِه الأرْوَاحُ مِنْ جَوِّه ... وهذِه الأجسامُ من تُرْبِهِ
لَوْ فَكَّرَ العاشقُ في مُنْتَهَى ... حُسْنِ الذي يَسْبِيِهِ لمْ يَسْبِهِ
لمْ يُرَ قَرْنُ الشمْسِ في شَرْقِه ... فشَكَّتِ الأنفُس في غَرْبِهِ
إلى أن قال بعد البيتين المذكورين آنِفاً:
وغايةُ المُفْرِطِ في سِلْمِه ... كغايةِ المُفْرِطِ في حَرْبِهِ
فلا قَضَى حاجتَه طالبٌ ... فؤادُه يَخْفِقُ مِن رُعْبِهِ
وقيل للربيع بن خُثَيم في مَرَضِه: ألا ندعو لكَ طبيباً؟ قال: أنْظِرُوني، ثم فكَّر فقال: {وَعَاداً
وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}، لقد كان فيهم أطِبّاءُ، فما أرى المُداوِي بَقِيَ ولا المُداوَى صَلُح. . .
ودخل الفرزدقُ على مريضٍ يَعودُه فسمِعَه يطلب طَبيباً فقال:
يا طالِبَ الطِّبِّ مِن داءٍ تَخَوَّنَهُ ... إنَّ الطَّبيبَ الّذي أبْلاكَ بالدّاءِ
هُوَ الطَّبيبُ الذي يُرْجَى لِعافيَةٍ ... لا مَنْ يَدُوفُ لكَ التِّرْياقَ بِالماءِ
الذي أبلى المريضَ بالدّاءِ والذي يُرجى لعافيةٍ: هو اللهُ عزَّ وجلَّ، ويَدوفُ: يخلُطُ. وتخوّنه: غيّر حالَه إلى أسوأَ منها، ويروى: تخونه والتِّرياق: الدّواء هنا، وأبلاه: صنع به ما يمتحن به ويختبر.
وقال ابن الرومي:
غَلِطَ الطَّبيبُ عليَّ غَلْطَةَ مُورِدٍ ... عَجِزَتْ مَوارِدُه عَنِ الإصْدارِ
وَالناسُ يَلْحَوْنَ الطَّبيبَ وإنّما ... غَلَطُ الطبيبِ إصابَةُ المِقدارِ
وقال أبو ذُؤَيْبٍ الهُذَليُّ:
وإذا المَنِيَّةُ أنْشبَتْ أظفارَها ... ألفيْتَ كلَّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ
وقال عليُّ بن الجَهم:
كَمْ مِنْ عَليلٍ قد تَخَطَّاهُ الرَّدى ... فنَجا ومَاتَ طبيبُه والعُوّدُ
وقد أخذَ هذا من قولِ عديِّ بنِ زيد:
أيْنَ أهْلُ الدِّيارِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ... ثُمَّ عادٌ مِن بَعْدِهِمْ وثَمُودُ
بَيْنَمَا هُمْ على الأسِرَّةِ وَالأنْ ... ماطِ أفْضَتْ إلى التُّرابِ الخُدودُ
ثُمَّ لمْ يَنْقَضِ الحَديثُ وَلكِنْ ... بَعْدَ ذَا الوَعْدُ كُلُّهُ وَالوَعِيدُ
وَأَطِبّاءُ بَعدَهُمْ لحِقُوهُمْ ... ضَلَّ عَنْهمُ سَعُوطُهُمْ واللَّدُودُ
وَصَحيحٌ أضْحَى يَعودُ مَريضاً ... وهو أدْنى لِلموَتِ مِمَّن يَعودُ
السَّعوط: الدّواء الذي يُؤخذُ من الأنف، واللَّدودُ: ما يُؤخذ من الدّواء بالمِسْعَطِ ويُصبُّ في أحد شِقَّيْ الفم ويُروى: أنَّ عبد الملك بنَ مروانَ هربَ من الطاعون، فركِبَ ليلاً وأخرجَ غُلاماً معه؛ وكان ينام على دابَّته، فقال للغُلام: حدِّثني، فقال ومَنْ أنا حتّى أحدِّثَك! فقال: على كلِّ حالٍ حَدِّث حَديثاً سَمِعْتَه، فقال: بلَغَني: أنَّ ثعلباً يَخْدُمُ أسَداً ليَحْميَه ويمنعَه مِمَّن
يريدُه فكان يحميه، فرأى الثعلبُ عُقاباً، فلجأ إلى الأسدِ، فأقْعده على ظهرِه، فانقضُّ العُقاب واخْتَلَسَه، فصاحَ الثعلبُ: يا أبا الحارث، أغِثْني واذْكُرْ عهدَك لي فقال الأسد: إنّما أقدِرُ على منعك من أهلِ الأرض، وأمّا أهلُ السماءِ فلا سبيلَ لي إليهم، فقال عبد الملك: وعَظْتَني وأحْسَنْت، انْصرِفْ ورَضِيَ بالقَضاء. . .
ولمناسبة الهربِ من الطاعونِ نُوردُ هنا ما أورَدْنا نظيرَه في قولنا على التوكُّل، وهو أنَّ عمر ابنَ الخطّاب رضوانُ الله عليه لما بلَغَه أنَّ الطاعونَ وقعَ بالشَّام فانصرفَ بالناس: قال له أبو عبيدةَ بنُ الجراح: أفِراراً من قَدَرِ اللهِ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال عمرُ: لو غيرُك قالَها يا أبا عبيدة! نَعَمْ نَفِرُّ من قَدَرِ اللهِ إلى قدرِ الله، أرأيْتَ لو أنَّ لك إبِلاً هَبَطْتَ بها وادِياً له جِهتان إحداهُما خصيبةٌ والأخرى جديبة، أليسَ لو رعَيْتَ في الخصيبة رعيتَها بقدرِ اللهِ، ولو رعَيْتَ الجديبةَ رعيتَها بقدرِ الله؟ وكان عبد الرحمن بن عوف غائِباً فأقبل، فقال: عندي في هذا عِلْمٌ سمعتُه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سَمِعْتُم به - بالطاعون - في أرْضٍ فلا تَقْدَموا عليها، وإذا وَقَع في أرضٍ وأنتم بها فلا تَخرُجوا فِراراً منه)، فحَمِدَ اللهَ عمرُ ثُمَّ انصرفَ بالناس. . .
وقال المتنبّي:
نُعِدُّ المَشْرَفِيَّةَ والعَوَالي ... وتَقْتُلُنا المَنونُ بِلا قِتالِ
ونَرْتَبِطُ السَّوابِقَ مُقْرَباتٍ ... وَمَا يُنْجينَ من خَبَبِ اللّيالي
وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنيا قَديماً؟ ... ولكِنْ لا سبيلَ إلى الوِصالِ
المَشْرفيّة: السيوف - والعوالي: الرّماح، والمَنون: الموت، والسَّوابق جمعُ سابقٍ وسابِقةٍ، والمُقْربات من الخيل هي الكِرامُ التي تُرْتَبط لكرامتِها على أصحابها أو لِفَرْطِ الحاجةِ إليها والخبب: عَدْوٌ لا يَسْتَفرغُ الجَهْدَ، يقول المتنبي: نحن نُعِدُّ السيوفَ والرماحَ لمنازلة الأعداء ومُدافعة الأقران؛ والموت يخترمُ نفوسَنا دون قتالٍ أو نزال، لا يمكننا حِذارُه ولا يتهيّأ لنا دفاعُه، ثم قال في البيت الثاني: ونَرْتَبِط الخيولَ الكريمةَ ومع هذا لا تُنجينا من طلبِ الدَّهْرِ إيّانا وخَبَبِ لياليه في آثارنا:
كأنّنا في حُروبٍ مِن حَوادثِه ... فَنَحْنُ مِن بينِ مَجْروحٍ ومَطْعونِ
وقد تقدَّم معنى البيت الثالث.
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
8 نوفمبر 2024
تعليقات (0)