المنشورات

من يحبّون الموت

قال عبد الله بن مسعود: ما مِنْ نَفْسٍ حيَّةٍ إلا والموتُ خيرٌ لها، إن كان برّاً فإنّ الله تعالى يقول: {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}، وإن كان فاجراً فإن الله تعالى يقول: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، وحضر أحدَ الصالحين الموتُ، ففَرِحَ فقيل له: تستبشرُ بالموت؟ فقال: أتَجْعلون قُدومي على خالقٍ أرجوه كمَقامي على مَخْلوقٍ أخافُه! وسُئِل حكيمٌ عن الموت، فقال: هو فزعُ الأغنياء وشَهْوةُ الفقراء. . . وقال بعضهم: لا يكونُ الحكيمُ حكيماً حتّى يعلمَ أن الحياةَ تسترقُّه والموتُ يُعتقُه. . . وقال المتنبي:
تَغُرُّ حَلاواتُ النُفُوسِ قلوبَنَا ... فتَخْتَارُ بَعضَ العَيْشِ وَهْوَ حِمامُ
يقول المتنبِّي: حبُّ الحياةِ يَغُرُّ القلبَ حتى يختارَ عيشاً فيه ذلٌّ: 

وشَرُّ الحِمامين الزُّؤَامَيْنِ عِيشَةٌ ... يَذِلُّ الذي يَختارُها ويُضَامُ
وقال أيضاً:
وما الدَّهْرُ أهْلٌ أن تُؤَمَّلَ عِندهُ ... حَياةٌ وأنْ يُشْتاقَ فيهِ إلى النَّسْلِ
وقد تقدم وفي هذه القصيدة يقول المتنبي:
نُبَكِّي لِمَوْتانا على غَيْرِ رَغْبةٍ ... تفُوتُ مِنَ الدُّنيا ولا مَوْهِبٍ جَزْلِ
إذا ما تَأمَّلْتَ الزَّمانَ وصَرْفَهُ ... تيَقّنْتَ أنَّ الموتَ ضَرْبٌ من القَتْلِ
يقول: نحن نَبْكي على موتانا ونحزن لهم ونأسَف لفراقِهم ونحن على يقين من أنهم لا يفوتهم من الدنيا ما يُرغَبُ في مِثلِه ولا يمتعون منها بما يصحُّ أن يتنافس في نيله، ثم قال في البيت التالي: وأنت إذا ما تأمَّلت وأنعمتَ النظرَ في تصاريف الدهر وخطوبه تيقَّنْتَ أنّ الموت المحتوم على المرء كالذي يتوقّعُه من القتل وإذن لا داعيَ للجُبن والذعر ولا مُوْجِبَ لحبِّ الحياة والتهافت عليها قال عنترة:
فأجَبْتُها: إنّ المَنِيّةَ مَنْهَلٌ ... لا بُدَّ أنْ أُسْقَى بذاكَ المَنْهَلِ
فاقْنَيْ حَياَءكَ لا أبا لَكِ واعْلَمِي ... أنِّي امْرؤٌ سأموتُ إنْ لَمْ أُقْتَلِ
فاقْنَيْ حَياءَكَ: فالْزَميه واحفظيه واتخذيه قُنيَةً وقال الإمام الجنيد: مَن كان حياتُه بنفسِه يكون مماتُه بذهابِ روحِه، فتَصْعُبُ عليه، ومن كان حياتُه برَبِّه فإنّه يَنْتَقِلُ من حياة الطبع إلى حياة الأصل، وهي الحياة الحقيقيَّةُ.
 












مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید