المنشورات
عبقريات شتى في كتمان السر
قال المُهلَّب بن أبي صُفرة: أدنى أخلاقِ الشريف كتمانُ السرّ، وأعلا أخلاقِه نسيانُ ما أسِرَّ إليه.
ويُروى أنّ معاوية بن أبي سفيان أسرَّ إلى ابنِ أخيه عثمانَ بنِ عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمان: فجِئْتُ إلى أبي فقلت: إنّ أميرَ المؤمنينَ أسرَّ إليَّ حديثاًََََََ أفأحدِّثُك به فقال: لا، إنّه من كتمَ حديثَه كانَ الخيارُ إليه ومنْ أظْهَره كانَ الخيارُ عليه، فلا تَجْعلْ نفسَك مَمْلوكاً بعدَ أنْ كُنْتَ مالِكاً، فقلت له: أوَيَدْخلُ هذا بينَ الرَّجلِ وأبيه؟ فقال: لا، ولكنّي أكْرَه أنْ تُذلِّلَ لِسانَك بإفْشاءِ السرّ! قال: فرجعت إلى معاوية فذكرْتُ ذلك له، فقال معاوية: أعْنَقك أخي من رِقِّ الخطإِ. . . .
وكان معاوية يقول: أعِنْتُ على عليٍّ رحمه الله بأربعٍ: كنتُ رجلاً أكْتمُ سرّي، وكان رجلاً ظُهَرَةً وكنْتُ في أطْوَعِ جندٍ وأصْلحِه، وكان في أخْبثِ جندٍ وأعْصاه، وتركْتُه وأصحابَ الجملِ وقلتُ: إنْ ظَفِروا به كانوا أهْونَ عليَّ منه، وإنْ ظَفِرَ بهم اعتَدَدْتُ بِها علَيْه في دينه، وكنتُ أحبَّ إلى قُريْشٍ منه. . .
وجاء رجلٌ إلى القاضي شُرَيح فكلّمه بشيءٍ وأخفاه، فلما خرجَ قال له رجلٌ: يا أبا أميّةَ، ما قال لكَ؟ قال: يا ابنَ أخي، أوَ ما رأيتَه سَتَرَه عنك!
وأسرَّ رجلٌ إلى صديقٍ له حديثاً فلما استقصاه قال: أفهِمْتَ؟ قال: لا، بل نَسيتُ. .
وقال عبيدُ الله بن عبد الله بن عتبةَ بن مسعود الفقيه:
إذا كان لي سِرٌّ فَحَدَّثتُه العِدا ... وضاقَ به صَدْري فَلَلناسُ أعْذَرُ
هُوَ السِّرُّ ما اسْتُودِعْتَه وكَتَمْتَه ... ولَيْسَ بِسرٍّ حينَ يفشو ويَظْهرُ
ويقال: إذا انتهى السرُّ مِن الجَنانِ إلى عَذَبةِ اللّسانِ فالإذاعةُ مُستوليةٌ عليه. . . .
وقال عمر بن عبد العزيز: القلوبُ أوعيةٌ للأسْرارِ، والشِّفاهُ أقفالها والألسنُ مفاتيحُها، فلْيَحْفظ كلُّ امْرئٍ مِفتاحَ سِرِّه. . . .
وقال شاعر:
صُنِ السِّرَّ عَنْ كُلِّ مُسْتَخْبِرٍ ... وحاذِرْ فما الحَزْمُ إلا الحَذَرْ
أسيرُك سِرُّك إنْ صُنْتَه ... وأنْتَ أسيرٌ له إنْ ظَهَرْ
وقال جَميلُ بن مَعْمَر:
أموتُ وألقى اللهَ يا بَثْنُ لمْ أبُحْ ... بِسِرِّك والمُسْتَخْبِرونَ كَثيرُ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ولمّا تلاقَيْنا عَرَفْتُ الّذي بِها ... كَمِثْلِ الذي بي حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
فقالتْ وأرْخَت جانِبَ السِّتْرِ إنّما ... مَعي فتَكلَّمْ غيرَ ذي رِقْبةٍ أهْلي
فقلتُ لها ما بي لهمْ مِنْ تَرقُّبٍ ... ولكنَّ سِرِّي ليسَ يَحْمِلُه مثلي
يُريد: أنه ليس يحمله أحدٌ مثلي في صيانتِه وستره، أي فلا يبديه لأحدٍ
وقال شاعر:
أخْفِضِ الصَّوْتَ إنْ نَطقْتَ بِلَيْلٍ ... والْتَفِتْ بالنَّهارِ قبلَ الكلامِِ
وقال مسلم بن الوليد صريعُ الغواني في الكتاب يأتيك فيه السرّ:
الحَزْمُ تَخْريقُه إنْ كنتَ ذا حَذرٍ ... وإنّما الحَزْمُ سوءُ الظّنِّ بالنّاسِ
إذا أتاكَ وقدْ أدَّى أمانَتَه ... فاجْعلْ صيانَتَه في بَطْنِ أرْماسِ
أرْماس جمع رَمْس وهو القبر، والمراد إخفاؤه وتعفيتُه حتى لا يبقى له أثر
وقال المعرّي:
فظُنَّ بِسائِرِ الإخْوانِ شَرّاً ... ولا تَأمَنْ على سِرٍّ فُؤادا
وقبله:
نلومُ على تَبلُّدِها قُلوباً ... تُكابدُ مِن مَعيشتِها جِهاداً
إذا ما النَّارُ لمْ تُطعَمْ وَقوداً ... فأوْشِكْ أنْ تمُرَّ بِها رَمادا
فظُنَّ. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . البيت
وبعده:
فلَوْ خَبَرَتْهمُ الجَوزاءُ خُبْري ... لَما طلَعَتْ مَخافَة أنْ تُكادا
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
10 نوفمبر 2024
تعليقات (0)