المنشورات

استشارة الكبار والصغار ومن يُعْتمد على مَشورته ورويَّته

كانتِ العربُ تحمدُ آراءَ الشيوخ؛ لتقدُّمها في السِّنِّ، ولِما مرَّ عليها من التجارِب التي عَرفت بها عواقبَ الأمورِ حتى كأنها تنظرُها عِياناً، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها
طريقَ الصوابِ وبيّنَتْه تِبياناً، ولِما مُنِحَتْه من أصالةِ رأيِها، واستفادتِه بجميل سعيها، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رأيُ الشيخ خيرٌ من مَشهدِ الغُلام. ومن أمثالهم زاحِمْ بعَوْدٍ أو دَعْ
وقال بعضُ الحكماءِ: عليك بِمَشورة من حلَبَ أشْطُرَ دهره، ومرّت عليه ضروبُ خيرِه وشرِّه، وبلغَ من العمرِ أشُدَّه، وأورت التجربةُ زندَه، واستشار زياد بن أبيه رجلاً، فقال الرجل: حقُّ المستشارِ أنْ يكونَ ذا عقلٍ وافر، واختبارٍ مُتَظاهر، ولا أُراني كذلك.
وقال ابن الرُّوميِّ يمدح يحيى بن عليٍّ المنجم:
ألْمَعيٌّ يَرى بأوَّلِ ظَنٍّ ... آخِرَ الأمْرِ مِنْ وَراءِ المَغيبِ
لا يُرَوّي ولا يُقلِّبُ كَفّاً ... وأكُفُّ الرِّجالِ في تَقْليبِ
وقال:
تُراهُ عَنِ الحَرْبِ العَوانِ بِمَعْزَلٍ ... وآراؤُه فيها وإنْ غابَ شُهَّدُ
كَما احْتَجَبَ المِقْدارُ والحُكمُ حُكْمُه ... على الخلْقِ طُرّاً لَيْسَ عَنْه مُعَرَّدُ
وقال إبراهيم بن العباس الصُّوليّ في الفضل بن سهل:
يُمْضي الأمورَ على بَديهَتِه ... وتُريهِ فِكْرتُه عَواقِبَها
فيَظلُّ يُصْدرها ويُورِدها ... فيَعُمُّ حاضِرَها وغائِبَها
وإذا الحُروبُ غَلَتْ بَعَثْتَ لها ... رَأياً تَفُلُّ بهِ كَتائِبَها
رأياً إذا نَبَتِ السُّيوفُ مَضى ... عزمٌ بها فَشَفى مَضارِبَها
وإذا الخُطوبُ تأثَّلَتْ ورَسَتْ ... هَدّتْ فواصِلُه نوائِبَها
وإذا جَرتْ بِضَميرِه يدُه ... أبْدَتْ به الدُّنْيا مَناقِبَها
وقبلَهما قال أوسُ بن حجر:
الألْمَعَيُّ الذي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَّ كأنْ قدْ رأى وقدْ سَمِعا
وقال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) في عبد الله بن عباس؛ إنَّه لينظرُ إلى الغيبِ من سِتْرٍ رقيق 

وقال الشاعر:
بَصيرٌ بأعْقابِ الأمورِ كأنَّما ... يَرى بِصَوابِ الرَّأيِ ما هُوَ واقِعُ
وقال الآخر في مثله:
عَليمٌ بأعْقابِ الأمورِ بِرَأيِه ... كأنَّ له في اليَوْمِ عَيْناً على الغَدِ
وقال:
بَصيرٌ بأعْقابِ الأمورِ كأنَّما ... يُخاطِبُه مِنْ كُلَِّ أمْرٍ عَواقِبُهْ
وأيْنَ مَقرُّ الحَزْمِ مِنْهُ وإنّما ... مَرائي الأمورِ المُشكلاتِ تَجارِبُهْ
ولقَدْ بالَغوا في الحثِّ على مشاورة ذوي الرأي والتجربة حتى ولَوْ كانوا أعداءً، قال ابن المقفع في كليلة ودمنة: لا ينبغي للعاقل أن يتركَ استشارةَ عدوّه ذي الرأي فيما يُشْركه ذلك العدوُّ في نفعِه وضرِّه. . .
وقالوا: اسْتَشِرْ عَدوَّك تَعْرفْ مِقدارَ عداوَتِه. . .
وقد رأى قومٌ خلافَ ذلك وذهبوا إلى أنّ رأيَ الشباب هو الرأي الصائِب، وفهمُهم هو الفهم الثاقب، إذْ أنّ عقولَهم سليمةٌ من العوارض، وآراءَهم خَضِرةٌ نَضِرةٌ لم يَهْتَصِرْ غُصْنَها هرمٌ، ولا أذوى زهرَتَها قِدَمٌ ولا خَبا من ذَكائِها بطول المُدّة ضرمٌ. قالوا: إنّ رأي الشَّيخ كالزّند قد انْثلم، أمّا رأي الشاب فكالزّندِ الصحيح الذي يُورى بأيسرِ اقْتِداح وقال الشاعر:
رأيتُ العقلَ لمْ يكنِ انْتِهاباً ... ولمْ يُقْسمْ على عَددِ السِّنينا
ولَوْ أنّ السنينَ تقسَّمتْه ... حَوى الآباءُ أنْصِبةَ البَنينا 













مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید