المنشورات
عبقريات شتى في المشورة
قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - شاعر ضخمٌ أدرك الدولة العباسية -:
إذا كنْتَ في حاجَةٍ مُرْسِلاً ... فأرْسِلْ حَكيماً ولا تُوصِهِ
وإنْ بابُ أمْرٍ عليكَ الْتَوى ... فشاوِرْ لَبيباً ولا تَعْصِهِ
ولا تَنْطِقِ الدَّهْرَ في مَجلسٍ ... حَديثاً إذا أنْتَ لمْ تُحْصِهِ
ونُصَّ الحديثَ إلى أهْلِه ... فإنَّ الوثيقةَ في نَصِّهِ
وإنْ ناصِحٌ منك يَوْماً دَنا ... فلا تَنأ عَنْهُ ولا تُقْصِهِ
وكَمْ مِنْ فَتًى شاخِصٍ عقلُه ... وقد تَعْجَبُ العينُ مِنْ شَخْصَهِ
وآخَرَ تَحْسَبُه جاهِلاً ... ويأتيكَ بالأمْرِ مِنْ فُصِّهِ
وقال ابنُ المقفَّع: لا يُقْذَفنَّ في روعِك أنّك إذا اسْتشرْتَ الرجالَ ظهر للناسِ منكَ الحاجةُ إلى رأيِ غيرِك فتَنْقَطِعَ بذلك عن المَشورة، فإنّك لا تريدُ الرأيَ لِلْفَخْرِ ولكن للانتفاعِ به، ولو أنّك أردْتَ الذِّكْرَ لكانَ أحسنُ الذِكر عند الألِبَّاءِ أنْ يُقال: لا يَنفردُ برأيِه دون ذَوي الرأيِ من إخْوانه. . . .
ولما سار سيّدُنا رسولُ اللهِ إلى قريشٍ في غَزاةِ بدرٍ نزل صلى الله عليه وسلم أدنى ماءٍ من مياه بدر، فقال له الحباب بنُ المُنذر: يا رسول الله، أرأيْتَ هذا المنزلَ أمَنْزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ عزَّ وجل ليس لنا أن نتقدَّمه ولا أن نتأخّرَ عنه، أمْ هو الرأيُ والحربُ والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحربُ والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليسَ لك بمَنْزل، فانْهضْ بالناس حتى نأتيَ أدنى ماءٍ من مياه القوم فنَنْزلَه، ثم نُعَوِّرَ ما سواه من القُلْبِ، ثمَّ نبني عليه حوضاً فنَملأه ماءً، ثم نقاتلَ القومَ فنشربَ ولا يشربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقدْ أشَرْتَ بالرأيِ وفعل ما أشار به الحُباب.
وفي حديث أبي هريرة: ما رأيْتُ أحداً أكثرَ مشورةً لأصحابِه من النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . أقول: وإنّما كان يشاورُهم - كما قال علماؤنا - فيما ليس فيه نَصٌّ، وفي أمور الدّنيا، ومَنْ ظنَّ أنه كان يشاورُهم في الأحكام فقد غَفَلَ غفلةً عظيمةً كما قال الأئمة، وكذلك إنّما كانت المشاورة قبل العزمِ والتبيُّن، فإذا عزم الرسول لم يكن لبشرٍ التَّقدُّمُ على الله ورسوله، قال العلماء: فلقد شاور النبيّ أصحابَه يوم أحُدٍ في المُقام والخُروج، فرأوا له الخروجَ، وكان صلواتُ الله عليه يرى أن يقيمَ بالمدينة فيقاتلَهم فيها، فما زالوا برسولِ الله حتّى لبِس لأْمَتَه فلما لبِسها نَدِموا وقالوا: يا رسول الله أقمْ فالرأيُ رأيُك، فلم يَمِلْ إليهم بعد العزْمِ وقال: لا ينبغي لنبيٍّ يلبس لأْمَتَه أن يضعَها حتّى يحكمَ الله. . . . وكذلك كان الخلفاء الراشدون يَستشيرونَ الأمناءَ من أهل العلم في الأمور التي لم يكن فيها نَصٌّ بحكمٍ معين ليأخذوا بأيسرها، فإذا وضح الكتاب والسنّة لم يتعدَّوْه إلى غيره، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه أمرٌ نظر فإن وجد في كتاب الله أو سُنّة رسوله ما يقضي به قضى وإلا دَعا رؤوس المسلمينَ وعلماءَهم واستشارهم، وكذلك كان يفعل الفاروق وسائر الخلفاء رضي اللهُ عن الجميع
قالوا: وكانت الرومُ والفرسُ لا يجمعون وزراءَهم على الأمر يستشيرون فيه، وإنّما كانوا يستشيرون الواحدَ منهم من غير أن يعلم الآخرُ به؛ وذلك لمعانٍ: منها أن لا يقعَ بين المستشارينَ منافسةٌ تذهب بأصالةِ الرأيِ وصحة النظرِ، لأنّ من طباع المشتركين في الأمر التّنافسَ والتّغالبَ والطَّعن من بعضهم على بعض، وربّما أشار أحدُهم بالرأيِ الصوابِ وسبق إليه فحسَدَه الآخرون فتَعقبّوه بالإعراضِ والتأويلِ والتهجينِ وكدّروه وأفسدوه ومنها أنّ في اجتماعِهم على المشورةِ تعريضَ السّرِّ للإضاعة والإفشاءِ والإذاعةِ ولذلك قالت الفرس: إنّما يُراد الاجتماعُ والكثرة والتآصُرُ في الأمور التي يُحتاج فيها إلى القوة، أمّا الأمورُ الغامضة فإنّ الاجتماع يُفسدُها ويولِّد فيها التضاغُنَ والتنافسَ. . .
وجاء في كتابٍ للهِنْد: أنّ ملكاً استشار وزراءَ له، فقال أحدهم:
الملكُ الحازم يزداد برأي الوزراء الحَزَمَةِ كما يزداد البحر بموادِّه من الأنهارِ وينال بالحَزْمِ والرأيِ مالا يناله بالقوة والجنود؛ وللأسْرارِ منازلُ، منها ما يدخل الرهطُ فيه، ومنها ما يُستعان فيه بقومٍ، ومنها ما يُستغنى فيه بواحدٍ وفي تحصين السرّ الظفرُ بالحاجة والسلامةُ من الخلل، والمستشير وإن كان أفضلَ رأياً من المُشير فإنّه يزدادُ برأيه رأياً كما تزداد النارُ بالسّليطِ ضَوْءاً؛ وإن كان الملك محصِّناً لسرَّه بعيداً من أنْ يُعرف ما في نفسه مُتخيّراً للوزراء مَهيباً في أنفُسِ العامة كافياً بِحُسنِ البلاء لا يخافُه البَريء ولا يأمنُه المُريب مُقدِّراً لِما يفيدُ ويُنفق، كان خليقاً لبَقاءِ مُلْكِه. ولا يصلح لسِرِّنا هذا إلا لِسانانِ وأرْبعُ آذانٍ. ثمَّ خَلا به. . .
وبعدُ فإنّ دولةَ الاستبدادِ قد أديلَ مِنها في هذه الأجيالِ وشالَ أمرُها في الميزان، ورَجَحَتْ كفَّةُ الشُّورى ونَفَقَتْ سوقُها، وخَطتْ في عصرنا هذا خطواتٍ رغيبةً موفَّقةً، وعمَّتْ أكثر الأمم التي أعْرَقت في الحضارة، وظهر أنَّ مجالسَ الشورى على عِلاتها هي خَيْرُ ألوان الحكم، ومَن الذي يقول إنّ الاستبدادَ أو الحكم المطلقَ الذي لا رِقبة عليه هو أفضلُ من الشورى أياً كان لونُها! اللهم إلا رَجُلٌ أحْمقُ مأفون ليس بثاقبِ الرأي، وإذا كانت الشورى لا تَعْرى من العُيوب فأين لا أين الخير مَحْضاً والكمال صرفاً. . .
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
12 نوفمبر 2024
تعليقات (0)