المنشورات

الحلم وكظم الغيظ والعفو والغضب والانتقام وما إلى هذه المعاني

والحلم كذلك لونٌ من ألوان الصبر، أليس هو تجرُّعَ الغيظ أو إمساكَ النفسِ عن ثورة الغضب وهيجه وانبعاثِه؛ وهو فضيلة عُليا {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ومن كلام النبوّة: كاد الحليم أن يكون نبياً. وهو نتاج العقل والأناة، أو قل: إنّه هُما. قال عز وجلَّ يذمُّ الكفَّار متعجِّباً منهم {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا}
وسأل عليٌّ رضي الله عنه كبيرَ فارسَ عن الغالب كان على كسرى أنو شروان، قال: الحلم والأناة، قال: هما تَوْأمانِ يَنتِجُهما علوَّ الهمة
وقال الشاعر:
لنْ يُدْرِكَ المَجْدَ أقوامٌ وإنْ كَرُموا ... حتّى يَذِلّوا - وإنْ عَزُّوا - لأقْوامِ
ويُشْتَموا فَترى الألوانَ مُسفرةً ... لا صَفْحَ ذلٍ ولكن صَفْحَ أحْلامِ 

قالوا: ولنْ يتمَّ حِلمُ الإنسان إلا بإمساك الجوارح كلِّها: اليدِ عن البطش، واللسانِ عن الفحش، والعينِ عن النظرِ الشَّزْر، وأقرب لفظ يقابل الحلم هو التذمُّر. وقال أبو هلال العسكري: ومن أشرف نعوتِ الإنسان أن يُدعى حليماً، لأنه لا يُدعاه حتى يكون عاقلاً وعالِماً ومصطبِراً وعفوّاً وصافحاً ومُحْتمِلاً وكاظِماً، وهذه شرائِفُ الأخلاقِ وكرائِمُ السَّجايا والخِصال.
والحلمُ: منه ما هو غريزيٌّ، وهو هبةٌ من الله لعبده يعفو عمَّن ظلمه، ويصِلُ من قَطَعه، ويُحسن إلى من أساءَ إليه، يَصدُرُ في ذلك عن نحيزةٍ كريمةٍ وغَريزةٍ سليمة وصدرٍ سالمٍ من الغوائل والأذى، صافٍ من شوائبِ الكدرِ والقَذى، وهذا هو الحلم الذي لا يُستطاع تعلُّماً ولا يُكْتسب تحلماً:
وإذا الحِلْمُ لَمْ يكُنْ في طِباعٍ ... لَمْ يُحَلّمْ تقادُمُ الميلادِ (المتنبي)
رُوي أنّ سيدنا رسول الله قال لأشجِّ عبد القيس: (يا أبا المنذر، إنَّ فيك خِصلتين يرضاهما الله ورسوله: الحِلْمُ والأناة فقال: يا رسول الله، أشيءٌ جَبلني اللهُ عليه أم شيءٌ اخترعْتُه من قِبلِ نفسي؟ قال: بل شيءٌ جبلك الله عليه قال: الحمد للهِ الذي جبلني على خُلقٍ يرضاه الله ورسوله) وهناك من يقول: إن الحلم ليس غريزةً ولا طبيعةً بل مكتسبٌ مستفاد. وأيّاً كان
الحال فليس من يُنكر أن من الحِلمِ ما هو غريزيٌّ كما قلنا، كما أنّ هُناك حِلْماً يُكتسب بالتَّحلّم كما أن العلم بالتعلُّم
قال حاتم:
تَحَلَّمْ عَنِ الأدْنَيْنِ واسْتَبْقِ وُدَّهم ... فلَنْ تَستطيعَ الحِلمَ حَتَّى تَحلَّما
يُروى أنّه كان عند جعفرٍ الصادق رضي الله عنه عبدٌ سيّئُ الخلق، فقيل له: أما تأنَفُ مثلَ هذا عندك وأنت قادرٌ على الاستبدالِ به؟ فقال: 

إنّما أتْرُكُه لأتعلمَ عليه الحِلمَ. . .
وقال الشاعر:
ولَيْسَ يَتمُّ الحِلْمُ للمرْءِ راضِياً ... إذا هُوَ عندَ السُّخْطِ لم يَتَحلَّمِ
كما لا يَتمُّ الجودُ للمَرْءِ مُوسِراً ... إذا هو عِنْدَ القَتْرِ لم يَتَحشَّمِ
(يتحشم: يتذمّم ويستحي)
وهناك حِلم حادث عن الكِبْرِ والعجرفة، لا يَرى المسيءَ أهْلاً أنْ يجاريَه، كما أنّ هُناكَ حِلمَ مَهانةٍ وذِلّةٍ وعَجْزٍ وضعفَ نفسٍ وصِغر هِمَّةٍ
 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید