المنشورات
الغضب وألوانه وما يسكن به ثورانه
قال الراغب: مثلُ الغضبِ مثلُ نارِ ما يشتَعِل، والناسُ فيه مختلفون، فبعضهم كالحَلْفاء سريعُ الوقود سَريعُ الخُمود، وبعضُهم كالغَضا بطيءُ الوُقود بَطيءُ الخُمود، وبعضُهم سَريعُ الوقود بطيءُ الخُمود، وبعضهم على العكس من ذلك، وهو أحْمدُهم، ما لَمْ يُؤدِّ به ذلك إلى زوال حميَّتِه، وفُقدانِ غيرتِه. واختلافُ الناس في الغضب قد يكون مردُّه اختلافَ الأمزِجة، وقد يكون العادةَ، إذْ من الناسِ من اعْتاد السكونَ والهدوءَ من جَرّاء إلْفِه الذُّلَّ والانقيادَ والاستِخْذاء، ومنهم من تعوّد الطيشَ والانْزِعاجَ فيحتّدُّ من أدنى ما يُلمُّ به، مثلُه مثلُ كلب يَسْمعُ صَوْتاً فيَنْبِحُ قبلَ أن يَعْرفَ مَصْدَرَه: وأكثر الناس غضباً الصبيانُ والنّساء، وأكثرُهم ضَجراً الشيوخُ، وأجلُّ الناس شجاعةً وأفضلُهم مُجاهدةً وأعظمُهم قوةً منْ كظَمَ الغيظَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعة، إنَّما الشَّديدُ الذي يَمْلكُ نفسَه عِنْدَ الغضب) ومرَّ صلوات الله عليه بقومٍ يرفعون حَجراً فقال: (ألا أخبرُكم بأشدِّكم؟: مَنْ مَلكَ نَفْسَه عِنْدَ الغضب) واعْلمْ أنَّ نارَ الغضبِ متى كانتْ عنيفةً تأجَّجتْ واضْطرمَتْ واحْتدَّ غليانُ الدَّمِ في القلبِ وامْتلأتِ الشرايينُ والدماغُ دُخاناً مُظلِماً يَسوء منه حالُ العقلِ ويَضْعُفُ فِعْلُه، وكما أنَّ الكَهْفَ الضيِّقَ إذا امتلأ حَريقاً واختنقَ فيه اللهبُ والدخان وعَلا الأجيجُ صَعُبَ عِلاجُه وإطفاؤه، وصار كلُّ ما يدنو منه مادةً لقوّته، كذلك النفسُ إذا اشْتعَلَتْ غضباً عَمِيَتْ عن الرشدِ وصمَّت عن الموعظةِ حتى تصير المواعِظُ مادةً لغَضبِها، وربّما أدّى الغضبُ إلى تلفٍ، وهو اخْتناق الحرارةِ في القلب الأمْرُ الذي قد يكونُ سبباً لأمراضٍ مُسْتَعْصِيةٍ تؤدي إلى التلف؛ ثمَّ قال وحَقُّ مَنْ يعتريهِ الغضبُ أنْ يُفكِّر، فإنْ كان المغضوبُ عليه تحتَ يدِه فلا مَعنى لاسْتِشاطَتِه؛ إذْ هو مُتَمكِّنٌ مِنَ الانْتقامِ منهُ مع سكونِ الجأشِ، وإنْ كان غضبُه على مَنْ لا سبيلَ إليه فلا مَعْنى لتعذيبِه نفسَه في الوقت وإنَّما الأخلقُ بهِ أنْ
يصبرَ حتّى يتمكَّنَ منه ثمَّ يفعلَ الواجب، قال حكيمٌ: سُدَّ طريقَ الغضبِ قبلَ تلهُّبِ نارِه في لَحْمِكِ ودمِك فإنَّك إنْ لَمْ تُطْفئ نارَ الغضبِ قبلَ انتشارِها صعبٌ عليك إطفاؤها بعدَ أن تنْتشر. وقال بعضُ الملوك لِحكيم: كيفَ لي أنْ لا أغضبَ؟ فقال: بأنْ تكون كلَّ وقت ذاكراً أنّه يجبُ أنْ تُطيعَ لا أنْ تُطاعَ فقط، وأن تَخْدُمَ لا أنْ تُخْدَمَ فقط، وأنْ تتحقّقَ أنَّ اللهَ تعالى يَراكَ دائماً، فإذا فعلْتَ ذلك لم تغضَبْ وإنْ غضبْتَ غضبْتَ قليلاً. . .
وقالوا: من غَضِبَ قائِماً فقَعَدَ سكَنَ غضبُه، وإنْ كان قاعِداً فاضْطَجَعَ سَكَنَ.
وكانت العرب تقول: إنّ الرثيثةَ تَفْثأُ الغَضَبَ: الرثيثة: اللبنُ الحامِضُ يُصبُّ عليه الحليب، وهو أطيبُ اللّبن، وتفثأ الغضبَ: تُسْكنه وتكسِرُ حِدَّته وخطبَ معاويةُ يوماً فقال له رجلٌ: كذَبْتَ، فنزل مُغْضَباً، فدخل منزلَه، ثمَّ خرجَ عليهم تقطُرُ لِحيتُه ماءً، فصَعِدَ المِنْبرَ فقال: أيُّها الناسُ، إنَّ الغضبَ مِنَ الشيطان، وإنَّ الشيطانَ مِن النار، فإذا غضِبَ أحدُكم فلْيُطْفِئَه بالماءِ؛ ثمَّ أخذَ في الموضِعِ الذي بلغَه مِنْ خُطْبته.
وفي الحديث: (إنَّ الغَضبَ جَمْرةٌ تُوقَدُ في جوفِ ابْن آدمَ، ألَمْ تَرَوْا إلى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وانْتِفاخِ أوْداجِه). . . .
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
12 نوفمبر 2024
تعليقات (0)