المنشورات
الغوغاء
ولهم في السُّقاطِ والسَّفِلةِ وهذه الرِّجْرة من الناس كلام كثير، فمن ذلك قولُ واصِل بن عَطاء: ألا قاتلَ اللهُ هذه السَّفِلةِ توادُّ من حادَّ اللهَ ونبيَّه، وتحادُّ من وادَّ اللهَ ونبيَّه، وتذمُّ من مدَحه اللهُ، وتمدح من ذمَّه الله، على أنَّ بهم عُلِمَ الفضلُ لأهل الطبقة العالية، وبهم أعطيت الأوْساطُ حظاً من النُّبل. . . .
ومنه قول سيدنا علي رضي الله عنه. وقد أُتيَ بجانٍ ومعه غَوْغاء - فقال: لا مرحباً بوجوهٍ لا تُرى إلا عند كل سَوْأة. . . وقوله رضي الله عنه: همُ الذين إذا اجتمعوا ضرّوا وإذا تفرّقوا نفعوا؛ فقيل له: قد علِمنا مضرَّةَ اجتماعهم فما منفعةُ افتراقهم؟ فقال: يرجِعُ أصحاب المهن إلى مهنهم، فينتفعُ الناس بهم، كرجوع البنّاء إلى بنائِه، والنسَّاجِ إلى مَنْسجه، والخبَّازُ إلى مَخْبزه. وكان الحسن البصري إذا ذُكِرَ الغوغاءُ والسُّوَق يقول: قتلةُ الأنبياء، وكانوا يقولون: العامَّة كالبحر إذا هاج أهلك راكبَه، وكان المأمون الخليفة العباسي يقول: كلُّ شرٍّ وظلمٍ في العالم فهو صادرٌ عن العامة والغوغاء، لأنّهم قتلة الأنبياء، والسُّعاة بينَ العلماء، والنَّمَّامون بين الأوِدَّاء، ومنهم اللُّصوص وقطّاع الطريق والطرَّارون والمُحتالون والسّاعون إلى السلطان، فإذا كان يوم القيامة حُشروا على عادتهم في السّعاية، فقالوا: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}. . . . وقال الجاحظ: الغاغةُ والباغةُ والحاكةُ كأنهم إعذار عامٍ واحد، ألا ترى أنك لا تجد أبداً في كلِّ بلدة، وفي كل عصر، هؤلاء، إلا بمقدار واحد وجهة واحدة، من السُّخف والنقص والخمول والغباوة.
ومن كلمةٍ لسيدنا عليّ في فضل العلم على المال ووصف الطَّغام - قال كُمَيْل بن زياد النخَعي: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فأخرجني إلى الجبّان، فلما أصحرَ
تنفَّس الصُّعداء، ثم قال: يا كميل بن زياد، إن هذه القلوبَ أوعيةٌ فخيرها أوْعاها، فاحفظ عني ما أقول لك، الناسُ ثلاثةٌ، فعالم ربَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباعُ كل ناعقٍ يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنورِ العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق، يا كميل، العلمُ خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمالُ تنقصه النَّفقة والعلمُ يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزوالِه؛ يا كميل بن زياد، هلك خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدّهر. إلى آخر هذه الخطبة العُلْويَّة التي تراها في نهج البلاغة. . . .
وقال معاوية لصَعْصَعةَ بنِ صوحان: صف لي الناس، فقال: خُلق الناسُ أطواراً، طائفةٌ للسيادة والولاية، وطائفةٌ للفقه والسنة، وطائفة للبأسِ والنّجدة، ورِجْرِةٌ بين ذلك، يُغْلون السعر، ويكدِّرون الماءَ، إذا اجتمعوا ضرّوا، وإذا تفرقوا لم يُعرَفوا. . . . ومن طريف التفاسير وغريبها ما قيل في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} أي من السلطان
{أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أي من السَّفِل. وقال دعبل:
ما أكثرَ الناسَ لا بل ما أقلَّهُمُ ... اللهُ يعلمُ أنّي لم أقلْ فَنَدا
إنِّي لأفتحُ عيني حينَ أفتَحُها ... على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحَداً
وهم يشبهون سوادَ الناس بالدَّبا، والدَّبا مقصور: الجرادُ قبل أن يطير، وفي حديث عائشة قالت: (كيف الناس بعد ذلك؟ قال: دَبًى يأكلُ شدادُه ضعافَه حتّى تقومَ عليهم الساعة). . . .
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
12 نوفمبر 2024
تعليقات (0)