المنشورات
الحسد
الحسد وقانا الله شرَّه - داءٌ من الأدواء المُتأصّلة الخبيثة الشائعة في هذا الناس إلا من عصم ربُّك، قال علماؤنا: الحسد: أن يرى الرجل لأخيه نِعمةً فيتمنّى أنْ تَزولَ عنه وتكونَ
له دونه، أما الغَبْطُ أو الغِبْطةُ فهي: أن يتمنى أن يكونَ له مثلُها ولا يتمنى زوالَها عنه، وهي كما قال الإمام الأزهري -: ضَرْبٌ من الحسد، ولكنَّها أخفُّ منه، قال: ألا ترى أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سُئِل: هل يضرُّ الغَبْط؟ فقال: نعم، كما يضرُّ الخَبط فأخبر أنّه ضارٌّ وليس كضرر الحسد الذي يتمنى صاحبُه زوالَ النعمةِ عن أخيه، والخبط: ضرْبُ ورق الشجر حتى يتحاتَّ عنه ثم يستخلف من غير أن يضُرَّ ذلك بأصل الشجرة وأغصانها.
وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. . . . .
قال الإمام البيضاويُّ: ما فضَّل اللهُ به بعضَكم على بعض: أي من الأمورِ الدُّنيوية كالجاه والمال، قال: لا تتمنَّوْه. فلَعلَّ عدمَه خيرٌ، قال: والمُقتضي للمَنْعِ كونُه ذريعةً إلى التحاسد والتَّعادي مُعْرِبةً عن عدم الرضا بما قسم اللهُ له، وأنّه تَشَهٍّ لحصولِ الشيء له من غير طلب، وهو مذمومٌ لأن تمنِّي ما لم يُقْدَرْ له معارضةٌ لحكم القدرِ وتمنّي ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال؛ وقد نعى الله في غير ما آيةٍ على أولئك الذين يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله
وفي الحديث: (لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه اللهُ مالاً فهْوَ يُنْفِقُه آناءَ الليل وأطرافَ النهار، ورجل آتاه اللهُ قرآناً فهو يتلوه). . . . قال الإمام الأزهري: هو أن يتمنّى الرجل أن يرزقَه اللهُ مالاً ينفق منه في سبيل الخير أو يتمنّى أن يكون حافظاً لكتاب الله فيتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ولا يتمنّى أن يُرْزأ صاحبُ المال في ماله أو تالي القرآن في حفظه. وقال ثعلب: معناه ليس حسد لا يضرّ إلا في اثنتين، أقول: ومعنى ذلك أنّ كلَّ حسد ضار إلا في هاتين أي أن حسد صاحب المال ينفقه في سبيل الخير وحافظ القرآن يتلوه، غير ضار، لأنّ هذين على سبيل سواء يستحِقّان معه أن يُحسدا، أي أن يُغبطا. . . .
وقال حكيم: الحسد مِنْ تعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البِنْية وضعف عقد العقل. . والحاسدُ طويل الحسرات. وقال حكيم: الحسد جرحٌ لا يبرأ، وحَسْبُ الحسود ما يَلْقى. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم، لِمَ تَحسُدُ أخاك؟ إنْ كان اللهُ أعطاه لكرامتِه عليه، فلِمَ تحسد مَنْ أكرمَه اللهُ؟ وإن كان غيرَ ذلك فلِمَ تحسُدُ من مصيرُه إلى النار! وفي الأثر: الحسد يأكل الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ، وقال علي بن أبي طالبٍ: ما رأيتُ ظالماً
أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد، نَفَسٌ دائم، وعقلٌ هائم، وحزنٌ لازم، وقالوا: الحسود لا يسود. . . . قال رَوْحُ بن زنباع الجُذاميُّ: كنت أرى قوماً دوني في المنزلة عن السلطان يدخلون مداخِلَ لا أدخلُها، فلمّا أذهبت عنّي الحَسدَ دخلتُ حيث دَخلوا. . . . وقال ابن المُقفّع: أقلُّ ما لِتاركِ الحسدِ في تركه أن يَصرِفَ عن نفسه عذاباً ليس بمُدْرِكٍ به حَظّاً ولا غائِطٍ بهِ عدوّاً، فإنّا لمْ نرَ ظالِماً أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد، طولُ أسفٍ، ومحالفةُ كآبةٍ وشدّةُ تحرُّقٍ، ولا يبرح زارِياً على نعمة اللهِ ولا يجد لها مَزالاً، ويُكدِّر على نفسه ما به من النّعمةِ فلا يجد لها طعماً ولا يزال ساخِطاً على مَنْ لا يَترضّاه ومتسخِّطاً لما لن ينالَ فوقَه، فهو منغَّص المعيشةِ دائمُ السّخْطةِ محرومُ الطّلِبة، لا بِما قُسم له يقنعُ ولا على ما لم يقسم له يَغْلِب، والمَحسود يتقلَّبُ في فضل اللهِ مُباشراً للسُّرورِ منتفِعاً به مُمَهَّلاً به إلى مُدَّةٍ ولا يقدر الناسُ لها على قطعٍ وانتقاص. . . وقال أبو تمام:
وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فَضيلةٍ ... طُوُيَتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسودِ
لولا اشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ ... ما كانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العودِ
لولا التّخوُّفُ لِلْعَواقبِ لَمْ تَزَلْ ... لِلْحاسِدِ النُّعْمى على المَحْسودِ
وقال البحتري:
ولَنْ يَسْتبينَ الدَّهْرَ مَوْضِعُ نِعْمةٍ ... إذا أنْتَ لَمْ تُدْلَلْ عليها بِحاسِدِ
وقال عبد الله بن المعتز:
اصْبِرْ على كَيْدِ الحسو ... دِ فإنَّ صَبْرَك قاتِلُهْ
فالنّارُ تأكُلُ نَفْسَها ... إنْ لَمْ تَجِدْ ما تأكُلُهْ
وقال ابن المقفع أيضاً: الحسد والحرص دعامتا الذنوب، فالحرص أخرج آدم عليه السلام من الجنة، والحسد نقل إبليس من جوار الله تعالى وقال الجاحظ: من العدل المحض والإنصاف الصريح - الخالص - أن تحطَّ عن الحاسدِ نصفَ عقابه، لأنّ ألمَ جَسْمه قد كفاك مؤونةَ شَطْر غيظك؛ وللجاحظ رسالة مطوّلة في الحسد تراها في رسائله.
وقيل للحسن البصري: أيَحْسُدُ المؤمنُ أخاه؟ قال: لا أبالك، أنسيت إخوة يوسف؟ وقالوا: الحَسود غضبانُ على القدر، والقدر لا يُعْتِبه - أي لا يُزيل عتْبَه: أي لا يُرضيه - أخذ هذا المعنى منصور الفقيه فقال:
ألا قُلْ لِمَنْ باتَ لي حاسِداً ... أتَدْري عَلى مَنْ أسأتَ الأدَبْ
أسأتَ على اللهِ في فِعْلِه ... إذا أنْتَ لَمْ تَرْضَ لي ما وَهَبْ
وقال معاويةُ: كلُّ الناس يمكنني أن أرضيَه، إلا الحاسدَ الذي لا يردُّه إلى مودَّتي إلا زوالُ نعمتي. وقال المتنبي:
سِوى وَجَعِ الحُسَّادِ داوِ فإنّه ... إذا حلَّ في قلْبٍ فلَيْسَ يَحولُ
وقال آخر:
كلُّ العَداوة قدْ تُرْجى إماتتُها ... إلا عَداوةَ مَنْ عاداكَ مِنْ حَسَدِ
ويقال: إذا أرادَ اللهُ أنْ يُسلِّطَ على عبده عدوّاً لا يرحمُه سلَّط عليه حاسداً. . . . . وقال العُتْبيُّ - وذكر وُلْدُ، الذين ماتوا -:
وحتّى بَكى ليَ حُسَّادُهُمْ ... وقَدْ أتْرَعوا بِالدُّموعِ العُيونا
وحَسْبُكَ مِنْ حادِثٍ بامْرئٍ ... يَرى حاسِديهِ لهُ راحِمينا
وقالوا: مَنْ دعتْهُ نفسُه إلى ترك الدنيا فلينظر: هل يَحْسُدُ أحداً، فإنْ حسد كان تركُه عجزاً، لأنه لو زهد فيها ما حَسَدَ عليها. وقال البحتريّ:
مُسْتريحُ الأحْشاءِ مِنْ كُلِّ ضِغْنٍ ... بارِدُ الصَّدْرِ مِنْ غَليلِ الحَسودِ وقيل لسفيانَ بن معاوية: ما أسْرعَ حسدَ الناسِ إلى قومِك! فقال:
إنّ العَرانينَ تَلْقاها مُحَسَّدةً ... ولا تَرى لِلِئامِ النّاسِ حُسّادا
وقال آخر:
وتَرى اللَّبيبَ مُحَسَّداً لَمْ يَجْتَرِمْ ... شَتْمَ الرِّجالِ وعِرْضُه مَشْتومُ
حَسدوا الفَتى إذْ لَمْ يَنالوا سَعْيَه ... فالقومُ أعْداءٌ لهُ وخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لِوَجْهِها ... حَسداً وظُلْماً: إنّه لَدَميمُ
وقال آخر:
إن تَحْسِدوني فإنّي لا ألومُكُمُ ... قبلي مِنَ الناسِ أهلُ الفضلِ قد حُسِدوا
فدامَ لي ولَهُمْ ما بي وما بِهِمُ ... وماتَ أكثرُنا غَيْظاً بما يَجِدُ
أنا الذي تَجدوني في حلوقِكُمُ ... لا أرْتقي صَدْراً عَنْها ولا أرِدُ
وخطب الحجاج يوماً بِرُسْتَقُباذ بقولِ سويد بن أبي كاهل - شاعر جاهلي إسلامي -:
كيفَ يَرْجون سَقاطي بَعْد ما ... جَلَّلَ الرأسَ بياضٌ وصَلَعْ
رُبَّ مَنْ أنضَجْتُ غيظاً صدرَه ... قَدْ تَمنّى ليَ موتاً لَمْ يُطَعْ
ويَراني كالشَّجا في حَلْقِه ... عَسِراً مَخْرجُه ما يُنْتَزَعْ
مُزْبِداً يخْطِرُ ما لَمْ يرَني ... فإذا أسْمَعْتُهُ صَوْتي انْقَمَعْ
لَمْ يَضِرْني غَيْرَ أنْ يَحْسِدُني ... فَهْوَ يَزْقو مثلَ ما يَزْقو الضُّوَعْ
ويُحيّيني إذا لاقيتُه ... وإذا يَخْلو له لَحْمي رَتَعْ
قد كفاني اللهُ ما في نفسِه ... وإذا ما يَكْفِ شيئاً لا يُضَعْ
وقال ابن الرومي لصاعد بن مخلد:
وضِدٍّ لكمْ لا زالَ يَسْفُلُ جَدُّه ... ولا بَرِحَتْ أنفاسُه تَتَصَعَّدُ
يرى زِبْرِجَ الدُّنْيا يُزَفُّ إليكُمُ ... ويُغْضي عَنِ اسْتِحْقاقكِمْ فَهْوَ يُفْأدُ
ولَوْ قاسَ باسْتِحْقاقِكِمْ ما مُنِحْتُمُ ... لأطفأ ناراً في الحَشا تَتَوقَّدُ
وآنَقُ مِنْ عِقْدِ العَقيلةِ جيدُها ... وأحْسنُ مِنْ سِرْبالِها المُتَجَرَّدُ
وقال الأصمعي: رأيْتُ أعرابيَّاً قدْ أتتْ له مائةٌ وعشرون سنة، فقلت له: ما طوَّل عُمُرَك؟ فقال تركت الحسدَ فبقيت. وكانوا يقولون: سِتّةٌ لا يخلون من الكآبة: رجلٌ افتقر بعد غنىً، وغنيٌّ يخافُ على ماله النَّوى - الهلاك والضياع - وحقودٌ، وحسودٌ، وطالبُ مرتبةٍ لا يبلغُها قدرُه ومخالِطُ الأدباءِ بغير أدب.
ومن ألفاظهم في وصف الحسد: قد دبَّت عقاربُ الحُسَّدِ، وكَمَنَتْ أفاعيهم بكلِّ مَرْصد: فلانٌ قد وَكَّلَ بي لَحْظاً يَنْتَضِلُ بأسْهُمِ الحَسَدِ. . .
ومن وصاياهم في باب الحذر من الأعداء الحُسَّد قول أعرابيٍّ يعِظ رجلاً: ويحك، إنَّ فُلاناً وإن ضحك إليك، فإنّه يضحك منك، ولَئِنْ أظهر الشفقة عليك، إنّ عقاربَه لَتسري إليك، فإنْ لم تتخذْه عَدوَّاً في علانيَّتك فلا تجعلْه صديقاً في سريرتك. . .
وحذَّر بعض الحكماء صديقاً له صحِبَه رجلٌ، فقال: احذر فلاناً، فإنّه كثيرُ المسألة، حسنُ البحث، لطيفُ الاستدراج يحفَظُ أولَ كلامِك على آخِره، ويعتبر ما أخَّرْتَ بما قدَّمت، فلا تظهُرِنَّ له المخافةَ فيرى أنك قد تحرَّزت. واعلم أن من يقظة الفطنة إظهارَ الغفلةِ مع شدّة الحذر. فباثِّه مباثَّةَ الآمِنِ، وتحفّظ منه تحفُّظَ الخائِف. فإنَّ البحثَ يُظهر الخفيَّ الباطن،
ويبدي المستكنَّ الكامن.
هذا، وقد عقد الغزاليُّ للحسد باباً زاخِراً في كتابه الإحياء حلّل فيه على طريقته هذا الداء - داء الحسد - وبيّن أسبابَه وأعراضه وعلاجه ولماذا كان شائعاً بين الأقران والإخوة والأقارب فارجع إليه إذا أردت التّوسُّعَ في هذا الباب، ولنختر منه هذه الحكاية الطريفة، قال: كان رجل يغشى بعضَ الملوك، فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكَه إساءته، فحسده رجلٌ على هذا المقام، وذلك الكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول، زعم أن الملك أبْخَرُ، فقال له الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال تدعوه إليك، فإنه إذا دنا منك وضع يدَه على أنفه لِئلا يشمَّ ريحَ البَخَر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكَه إساءته، فقال له الملك:
ادن منّي، فدنا منه ووضع يده على فيه، مخافةَ أن يشمَّ الملكُ منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا قد صَدق، وكان الملك لا يكتب بخطّه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتاباً بخطّه إلى عامل من عمّاله: إذا أتاك حامِلُ كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحشُ جِلْدَه تبناً وابعث به إليّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سَعا به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خطَّ الملكُ لي بصلة، فقال: هبْهُ لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل، فقال العامل: في كتابك: أنْ أذبحَك وأسلخَك، قال: إنَّ الكتاب ليس هو لي، فاللهَ اللهَ في أمري حتى تراجعَ الملك، وقال: ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلدَه تبناً وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلانٌ فاستوهبَه منّي، فوهبته له، قال الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قُلْتُ ذلك، قال: فلِمَ وضعْتَ يدك على فيك، قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم، فكرهت أن تشمَّه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك فقد كُفي المسيءُ إساءته. . . . ومثل هذه الحكايات كثير ويصحُّ أن توضع في باب السّعاية والمكر، وعاقبة الماكرين.
وبعد فإنّ ما نورده ههنا من عبقرياتهم في الحسد والحقد وما إليهما إنما هو قليلٌ من كثيرٍ تراه في باب الطبائع وإنّما ما نورد من هذه العبقريات لنستوفي بابَ العداوات
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
12 نوفمبر 2024
تعليقات (0)