المنشورات
حدّ التواضع والكبر
التواضعُ فضيلةٌ بين الضَّعَةِ والكِبْرِ، قال الراغب: التواضعُ مشتَقٌّ من الضَّعَةِ وهو: رضا الإنسانِ بمنزلةٍ دون ما يستحقُّه فضلُه ومنزلتُه، وهو فضيلةٌ لا تكاد تظهر في أفناء الناس، لانْحطاطِ درجتهم، وإنّما يتبيّن ذلك في الملوك وأجِلاء الناسِ وعُلمائِهم. وهو من باب التفضُّل، لأنّه يترك بعضَ حقِّه، قال: وهو بَيْنَ الكِبْرِ والضَّعَة: فالضعة: وضع الإنسان نفسَه بمحلٍّ يُزري به، والكِبْرُ: وضعُ نفسه فوق قَدْرِه، أو هو: ظنُّ الإنسانِ أنّه أكبرُ مِنْ غيره، والتكبُّر إظهارُ ذلك. وهذه صفةٌ لا يستحقّها إلا اللهُ عز وجل، ومن ادّعاها من المخلوقين فهو فيها كاذبٌ، وكذلك صار مَدْحاً في الباري تعالى، وذمّاً في البشر، وإنّما شرف المخلوق في إظهار العبودية كما قال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، تنبيهاً على أن ذلك لهم رفعةٌ لا ضَعةٌ: قال: والتكبُّر يتولّد من الإعْجاب، والإعجاب من الجهلِ بحقيقةِ المحاسن، والجهلُ رأس الانسلاخِ من الإنسانية، ومن الكِبْرِ الامتناعُ مِنْ قُبولِ الحق، وأقبح كِبْرٍ ما كان معه بخلٌ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (خَصلتانِ لا يَجتمعانِ في مؤمنٍ: الكبر والبخلُ)، واستُحسن قول الشاعر:
جَمَعْتَ أمْرَيْنِ ضاعَ الحزمُ بينَهما ... نَفْسُ الملوكِ وأخْلاقُ المَماليكِ
ومن تكبر لرياسةٍ نالها دلَّ على دناءَة عُنْصره، ومن تكبَّر لِقِنْيَتِه جهلَ أنّ ذلك ظلٌّ زائلٌ وعاريةٌ مُستردّة، ومن تفكّر في ذاته فعرف مبدأه ومُنتهاه وأواسِطه عرفَ نفسَه وروَّض كِبْرَه، وقد نبَّه اللهُ على ذلك بقوله: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}، وقال: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}، ثم قال: وأمّا العِزّة فهي: الترفُّع بالنفس عما يلحقه منه غضاضة، والعِزّة منزلةٌ شريفة، وهي نتيجةُ معرفة الإنسان بقدر نفسه وإكرامُها
عن الضراعَةِ للأعراضِ الدُّنيوية، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وفي الحديث: (لا ينبغي للمؤمن أنْ يُذلَّ نفسَه) ولذا قالوا: التكبّر على الأغنياء تواضُعٌ، تنبيهاً على أن هذا التكبُّرَ عِزَّة نفسٍ، وقال ابن مسعود: من خضَعَ لغنيٍّ فوضع نفسه عنده طعماً فيه ذهب ثلثا دينه وشطْرُ مروءته. أقول ولهذا باب سيمرُّ عليك.
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
20 نوفمبر 2024
تعليقات (0)