المنشورات

حث على الثبات والإقدام ونهي عن الإحجام والفكر في العواقب

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}. . . زحفاً حال من الذين كفروا، والزحفُ: الجيش الكثير الذي يُرى لكثرته كأنّه يزحف،: أي يَدِبُّ دَبيباً، من زحف الصبي: إذا دبَّ على اسْته قليلاً قليلاً، سُمِّى بالمصدر، والجمع: زحوف، والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير متوافِرون وأنْتم قليلٌ فلا تفرُّوا، فضلاً أنْ تُدانوهم في العدد، أو تساووهم. . . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. . . . إذا لقيتم فئة: إذا حاربتم جماعة، فاثبتوا: لا تفرُّوا، واذكروا الله كثيراً: اذكروه سبحانه في مواطن الحرب، مستظهرين بذكره مترقِّبين لنصره، وفي هذا إشعارٌ بأنّ على الإنسان أن لا يفتُرَ عن ذكر ربّه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همّاً، وأن تكون نفسُه مُجْتَمِعةً لذلك وإن كانت متوزِّعةً عن غيره، وفَشِل يَفْشَل: ضَعُفَ وجَبُنَ وذهبت قُواه، يقول سبحانه: إذا اختلفتم ضعُفتم وإذا اتفقتم كنتم أقوياء، والريح: الدولة، شُبّهت في نفوذ أمرها وتمشِّيه بالريح وهبوبها، ومن ذا يقال: هبَّت ريحُ فلان: إذا دالت له الدولةُ ونفذ أمره وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الرِّدة: احْرِصْ على الموت تُوهبْ لكَ الحياة. وقالوا: من فكَّرَ في العواقبِ لَمْ يَشْجُعْ.
وقالوا: السلامةُ في الإقدام، والحِمامُ في الإحْجام.
وتقول العربُ: الشجاعُ مُوقًّى. أي تتهيَّبه الأقرانُ فيتحمّلونه فيكون ذلك وقاية له
واستُشير أكثمُ بن صيفيٍّ في حرب أرادوها فقال: أقلُّوا الخِلاف لأمرائِكم واعْلموا أنّ كثرة الصِّياحِ مِنَ الفشل، والمَرْءُ يَعْجِزُ لا مَحالة وادَّرعوا الليل فإنّه أخفى للويل.
وقال هانئ بن مسعود الشيباني يوم ذي قار يحذِّر قومَه: إنَّ الحذرَ لا يُنجي من القَدر، والصبرَ مِنْ أسبابِ الظفر، والمنيَّةَ ولا الدَّنيَّة، واستقبال الموت خيرٌ من استِدْبارِه، والطعن في ثُغور النحورِ أكرمُ منه في الأعجاز والظهور، وهالكٌ معذور خيرٌ من ناجٍ فرور. . . .
وقال أبو مسلم الخُراساني لبعض قوّاده: إذا عرضَ لك أمْرٌ نازعك فيه مُنازِعان، أحدُهما يبعث على الإقدام والآخر على الإحْجام، فأقدم، فإنّه أدرك للثأرِ، وأنْفى للعار.
وقالت الخنساء:
نُهينُ النفوسَ وهَوْنُ النُّفو ... سِ يَوْمَ الكَريهةِ أوْقَى لها
وقيل للمهلّب بن أبي صفرة: إنَّك لتلقي نفسَك في المهالك، فقال: إنْ لَمْ آتِ الموت مُسْترسلاً، أتاني مُسْتعجلاً، إني لست أتي الموت من حبِّه وإنَّما آتيه من بُغْضه، ثم تمثّل بقول الحُصَيْنِ بن الحُمام المرِّي:
تَأخَّرْتُ أسْتَبْقي الحَياةَ فلَمْ أجِدْ ... لِنَفْسي حَياةً مِثْلَ أنْ أتَقدَّما
وهي أبيات مشهورة يقول فيها:
فلَسْنا على الأعْقابِ تَدْمى كُلومُنا ... ولكِنْ على أقْدامِنا تَقْطُرُ الدَّما
نُفلِّقُ هاماً مِنْ رجالٍ أعِزَّةٍ ... عَلَيْنا وهُمْ كانوا أعَقَّ وأظْلَما
ومعنى تأخرت. . . ألبيت: لما تأخّرْتُ طمع فيَّ العدو، وظنّني جباناً فاجترأ عليّ، لأن كل أحد يطمع في الجبان، ومن ثم كان القتل إلى الجبان أسرع، فتقدمت، فكان التقدم أنجى لي، ويجوز أن يكونَ المعنى: أحجمت مُسْتَبْقياً لِحياتي، فلَمْ أجِدْ لنفسي حياةً كما يكون في الإقدام وذلك أنّ الأحدوثة الجميلة إنّما تكون بالتقدم لا بالتأخُّر. ومعنى فلسنا على الأعقاب. . . البيت: نحن لا نولّي فنجرح في ظُهورنا فتقطر دماؤنا على أعقابنا، ولكنّا نستقبل السيوفَ بوجوهنا، فإن أصابتنا جراحٌ قطرت دماؤنا على أقدامنا، وقوله نفلّق هاماً. . . . البيت فالهام جمع هامة، وهي الرأس يقول: نشقِّق هاماتٍ من رجالٍ يكرُمون علينا، لأنّهم منّا وهمْ كانوا أسبقَ إلى العقوق: ويقال: عقَّ الرحم كما يقال: قطعها.
وقال الكلحبة اليربوعيّ - شاعر جاهلي -:
إذا المَرْءُ لَمْ يَغْشَ الكريهةَ أوْشَكَتْ ... حِبالُ الهُوَيْنى بِالفَتى أنْ تَقَطَّعا
الغشيان: الاتيان، والكريهة: الحرب، وقيل: شدَّتها، وقيل النازلة! وأوشكت: قاربت ودنت، والحبال جمع حبل، بمعنى: السبب، استعير لكل شيء يُتَوَصَّلُ به إلى أمر من الأمور، والهوينى: الخفض والراحة والباء في بالفتى: للمصاحبة فيكون حالا، أو بمعنى عن فيتعلق بما بعدها وجاز لأنه ظرف، وتقطّعا بحذف إحدى التاءين والفاعل ضمير حبال، وقوله: بالفتى فقد كان يجب أن يقول بدل الفتى: به، أو بالمرء ولكنه عدل عن المضمر والمظهر إلى لفظ آخر لأنه أشبه المُضْمَرَ، وقال ابن رشيق: قوله بالفتى حشو وكان الواجب أن يقول: به لأنّ ذكر المرء قد تقدم، إلا أن يريد بالفتى معنى الزِّراية والأطنوزة - السُّخْرية
- فإنه محتمل. وهذا تخيُّلٌ دقيق من ابن رشيق
 












مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید