المنشورات
الصلح والتحذير من الحرب
قال عزَّ وجلَّ: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}. السِّلْمُ: الصلح، بفتح السين وكسرها، وتُذَكَّر وتؤنث، وقال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} نزلت هذه الآية الكريمة في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسَّعَفِ والنِّعال، والجمع في اقتتلوا باعتبار المعنى فإنّ كلَّ طائفةٍ جمع، وبغت: تعدّت، وتفيء: ترجع، وأقسطوا: اعْدِلوا.
ومن كلامِهم: الحَرْبُ صعبةٌ مُرَّة، والصلح أمنٌ ومسرَّة.
ومنه: إيّاك والمعاداةَ، فإنك لن تَعْدِمَ مَكْرَ حَليمٍ، أو مُفاجأةَ لئيم.
ومنه: لا تستثيروا السِّباعَ مِنْ مرابضها فتندموا، وداروا الناسَ في جميع الأحوال.
ومنه: الفتنة نائمةٌ، فمَنْ أيقظَها فَهْوَ طَعامها الفتنة هُنا: ما يقع بين الناس من القتال
والحروب. وقال زهير بن أبي سُلمى في معلقته:
وما الحَرْبُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ ... وما هُوَ عَنْها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبْعَثوها تَبْعَثوها ذَميمةً ... وتَضْرَ إذا ضَرَّيْتُموها فَتَضْرَمِ
فتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحى بِثِفالِها ... وتَلْقَحْ كِشافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتَجْ لكُمْ غِلمانَ أشأمَ كُلُّهُمْ ... كَأحْمَرِ عادٍ، ثمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
فتُغْلِلْ لكُمْ ما لا تُغِلُّ لأهْلِها ... قُرًى بِالعِراقِ مِنْ قَفيزٍ ودِرْهَمِ
إلى أن قال:
ومَنْ يَعْصِ أطْرافَ الزّجاجِ فإنَّه ... يُطيعُ العَوالي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ
المُرَجَّم من الحديث: المَقولُ بطريق الظَّنِّ لا عن تحقيق، يقول: وما حديثي عن الحرب وتخويفكم أهوالَها بالحديث المفترى، وإنّما أنتم قد علمتم ويلاتِ الحرب وذُقتموها فلا تقربوها؛ وضَرِيَ يَضْرَى: اشتدَّ حِرْصُه والتَّضْرية: الحمل على الضّراوة. وضَرِمَتِ النارُ تَضْرَم: التهبت يقول: متى تَهيجوا الحربَ تَهيجوها مذمومةً، أي تُذمّون على إثارتها، ويشتد حرصها إذا حملتموها على شدة الحرص فيشتد حَرُّها وتلتهب نارها، يحثّهم على التمسُّك بالصلح وينذرهم بسوء عاقبة إيقاد نار الحرب. وقوله: فتعرككم ألبيت، فالعَرْك: الدَّلك، والثِّفال: الجلدُ أو الخرقة تُوضعُ تحت الرّحى ليقعَ عليها الطحين، والباء في بثِفالها بمعنى مَع، واللّقاح: حمل الولد يقال: لَقِحَتِ الناقةُ تَلْقَحُ: إذا حملت، وتلقح كِشافاً: أي تلقح لِقاحاً كِشافاً، بأن تحمل في عامين متواليين وتُتْئم: أي تأتي في كل مرّة بتَوْءَمين، يقول: إذا هجتم الحرب طحنتكم طحنَ الرّحى الحَبَّ مع ثِفالها وتطول شِدّتُها وويلاتُها وتتولّد من جرّائها صنوفٌ وضروب من الأهوال والشرور، ومثلها في ذلك مثل الناقة تحمل حَمْلَيْن في عامين مُتواليين ثم لا تلدُ إلا تَوْءَمين، جعل إفناءَ الحربِ إيّاهم بمنزلة طحن الرّحى الحبَّ وجعل صنوفَ الشرِّ تتولد من الحرب بمنزلة الأولاد الناشِئة من الأمَّهات وبالغ في وصفها باستتباع الشرِّ شيئين: أحدهما جَعْلُه إيّاها لاقِحة كِشافاً، والآخر إتْآمُها. وأشأم مَصدرٌ من الشّؤم، على وزْنِ أفْعل، أو صفة لمَحذوف، وأحمرُ عاد: لقب لعاقِرِ ناقة صالح عليه السلام نبيِّ ثمود واسمه قِدار، وكان عقْرُه لهذه الناقة شُؤماً على قومه، ويريد بعاد ثمودَ إمّا توهُّماً وخطأً وإمّا لأنَّ ثمودَ مِن عاد، يقول: إنّ هذه الحرب تطول ويلاتُها وشرورُها وتنتج
لكم غِلمانَ شؤمٍ أو غِلمانَ أبٍ أشأم شؤم قِدار عاقر الناقة، ثم تعيش هذه الغلمان فترضعهم الحرب وتفطمهم، وكل ذلك كنايةٌ عن طول ويلات الحرب وطول شرورها. وقوله: فتغلل لكم. . . ألبيت يقول: فتغلُّ لكم هذه الحرب ضُروباً من الغَلاّت ليست كغلات قرى العراق من الحبِّ الذي يُكال بالقفيز، أو من ثمن الغلة وهي الدراهم، يعني: أن المضارّ المتولِّدة من هذه الحرب تُربي على المنافع المتولدة من هذه القرى، وكل هذا حثٌّ منه لهم على الاعتصام بعُرى الصلح وزجرٌ عن إيقادِ نارِ الحرب التي تلك أفاعيها وأهوالها. وقوله: ومن يعص. . . ألبيت فالزجاج جمع زِجّ وهو الحديدُ المُرَكّب في أسفل الرمح، واللَّهْذمُ: السِّنانُ الطويل يقول: من يعصِ أطرافَ الزّجاج أطاع عوالي الرّماحِ التي رُكّبت فيها الأسنة الطّوال الحادّة والمعنى: من أبى الصُّلْحَ ذلّلته الحربُ وليَّنَتْه، وكانت العرب إذا التقت فئتان منهم سَدَّدت كلُّ طائفة منهما نحو صاحبتها زجاج الرِّماح وسعى الساعون في الصلح، فإن أبتا إلا التمادي في القتال قلبت كل واحدة منهما الرّماحَ واقتتلتا بالأسنّة. وقال كثَيِّر:
رَمَيْتَ بأطْرافِ الزِّجاجِ فلَمْ يُفِقْ ... مِنَ الجَهْلِ حتَّى كلَّمَتْه نِصالُها
وخطب بعضهم خُطبةً طويلةً لصلح أمّة، فقال له رجل: أنت مُذِ اليوم ترعى في غير مَرْعاك. . . أفلا أدُلُّك على المقال؟ فقال: نعم فقال:
أمّا بعد فإنَّ الصُّلْحَ بقاءُ الآجال، وحفظ الأموال، والسلام. فلمّا سمع القوم ذلك تعانَقوا وتَواهبوا الدِّيات. وكتب سَلْمُ بن قتيبةَ بنِ مسلم إلى سعيد المُهلَّبي لما تحاربا بالبصرة:
خُذوا حَظَّكُمْ مِنْ سَلْمِنا إنَّ حِزْبَنا ... إذا زَبَنَتْه الحَرْبُ: نار تَسَعَّرُ
وإنّي وإيّاكم على ما يَسوؤُكُمْ ... لَمِثْلانِ أو أنْتُمْ إلى الصُّلْحِ أفْقَرُ
وقال حكيم: دافع بالحرب ما أمكن، فإنّ النفقةَ في كل شيءٍ من الأموال، إلا الحرب، فإنّ النفقة فيها من الأرْواح، عِلاوةً على الأموال.
وقال النابغة الجَعْديُّ:
وتَسْتَلِبُ المالَ الذي كانَ ربُّها ... ضَنيناً بهِ والحَرْبُ فيها الحَرائِبُ
وقد تبعه أبو تمام فقال:
والحَرْبُ مُشْتقّةُ المَعْنى مِنَ الحَرَبِ
الحَرَبُ: أنْ يُسْلبَ الرجلُ مالَه
وقال شاعر يُسمى حلحَلةَ بن قيس الكناني:
دَعاني أشُبُّ الحَرْبَ بَيْني وبينَه ... فقلْتُ له: لا، بلْ هَلُمَّ إلى السَّلْمِ
وهَلا عَنِ الحَرْبِ التي لا أديمُها ... صَحيحٌ وما تَنْفَكُّ تأتي على سُقْمِ
فإنْ يَظْفَرِ الحِزْبُ الذي أنْتَ مِنْهُمُ ... وآبوا بِدُهْمٍ مِنْ سِباءٍ ومِنْ غُنْمِ
فَلا بُدَّ مِنْ قَتلي لَعلّكَ فيهِمُ ... وإلا فَجُرْحٌ ليسَ يَكْني عَنِ العَظْمِ
فلمّا أبى أرْسَلْتُ فَضْلَةَ ثَوْبِه ... إليهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِعَزْمٍ ولا حَزْمِ
فلَمّا رَمانيها رَميْتُ سَوادَه ... ولا بُدَّ أنْ تَرْمي سَوادَ الذي يَرْمي
فبِتْنا على لَحْمٍ من القوم غودِرَتْ ... أسِنَّتُنا فيهِ وباتوا على لَحْمِ
وكانَ صَريعَ الجَهْلِ أوَّلَ وَهْلةٍ ... فبُعْداً لَه مُخْتارَ جَهْلٍ على عِلْمِ
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
20 نوفمبر 2024
تعليقات (0)