المنشورات
الشجاعة والحرب
قالوا: أحسنُ ما قيل في وصف الحربِ والمتحاربين قولُ الأول:
كأنَّ الأفْقَ مَحْفوفٌ بِنارٍ ... وتَحْتَ النارِ آسادٌ نَزيرُ
ومما يتصل بذلك ما قيل في ليالي صفّين:
اللَّيْلُ داجٍ والكِباشُ تَنْتَطِحْ ... نِطاحَ أسْدٍ ما أُراها تَصْطَلِحْ
فَمَنْ يُقاتِلْ في وَغاها ما نَجا ... ومَنْ نَجا بِرأسِه فَقَدْ رَبِحْ
وكان يزيد بن عُمَر بن هُبَيرة والي العَراقين من قبل بني أميّة لا يُمِدُّ نَصْرَ بنَ سيّارٍ واليَ خُراسان مِنْ قِبَلهِ بالرجال، ولا يرفع ما يَرِدُ عليه من أخبار خُراسان إلى مروان بن محمد آخر الدولة الأموية، فلمّا كثر ذلك على نصر كتب إليه كتاباً وفيه هذه الأبيات:
أرى خَلَلَ الرَّمادِ وَميضَ جَمْرٍ ... ويُوشِكُ أنْ يكونَ له ضِرامُ
فإنَّ النارَ بالعودينِ تُذْكى ... وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُها الكَلامُ
فإنْ لَمْ يُطْفِها عُقلاءُ قَوْمٍ ... يكونُ وَقودَها جُثَثٌ وهامُ
فقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْري ... أأيْقاظٌ أميَّةُ أمْ نِيامُ
قوله: وإن الحرب أولها الكلام نحوه قول بعضهم: إن الفتنة تُلْقَحُ بالنّجوى وتُنْتَجُ بالشّكوى. . .
ومما قيل في كثرة الجيش من قديمِ الشعر قولُ الأخنس بنِ شهاب التَّغلبي وهو ممّن حضرَ حربَ البسوس:
بِجأواَء يَنْفي وِرْدُها سَرَعانَها ... كأنَّ وَميضَ البَرْقِ فيها كَواكِبُ
الجأواء: الكتيبة يَضربُ لونُها إلى الكُلْفة - اللون الكدر - وذلك من صدأ الحديد، والسَّرَعان: الأوائل، يقول: إن المياهَ لا تسعهم والأماكنَ تضيق بهم فكلّما نزلت فرقةٌ منهم رحل مَنْ تقدّمهم
وقول أوس بن حجر:
تَرى الأرْضَ مِنَّا بالفَضاءِ مَريضةً ... مُعَضِّلةً مِنّا بِجَمْعٍ عَرَمْرَمِ
عَضَّلَتِ الأرْضُ بأهْلِها: إذا ضاقت بهم لكثرتهم! وعَضَّلتِ المرأةُ بولدِها تعضيلاً: إذا نَشِبَ الولدُ فَخَرجَ بعضُه ولَمْ يَخْرُجْ بَعْضٌ فبَقِيَ مُعْتَرِضاً
وقال أبو نواس:
أمامَ خَميسٍ أدْجُوانٍ كأنَّه ... قَميصٌ مَحوكٌ مِنْ قنًا وجِيادِ
الأدْجوانُ: الأسود، واشتقاقه مِنَ الدُّجى، ويروى: أرْجُوانٍ، وهْوَ: الأحْمر
وقال ابن الرومي:
فلَوْ حَصَبَتْهُمْ بِالفضاءِ سَحابةٌ ... لَظَلَّ عَلَيْهِمْ حَصْبُها يَتَدَحْرَجُ
وهو من قول قيس بن الخطيم:
لَوَ انَّكَ تُلْقي حَنْظلاً فَوْقَ بَيْضِنا ... تَدَحْرَجَ عَنْ ذي سامِهِ المُتَقارِبِ
البيض جمع بَيضة: الخوذة، سميت بذلك لأنها على شكل بيضة النعام، والحنظل ثمر يشبه البطيخ لكنه أصغر منه جداً ويضرب المثل بمرارته، وقوله: عن ذي سامه، أي على ذي سامه، فعن فيه بمعنى على والهاء في سامه يرجع إلى البيض المُمَوَّه به، أي البيض المُمَوّه بالسام، والسام: عروق الذهب والفضة، وهو هنا الطرائق الْمُذهبة في البيض، قال الإمام ثعلب: معناه: أنهم تراصُّوا في الحرب حتى لو وقع حنظل على رؤوسهم على إمّلاسِه واستواء أجزائه لم ينزل إلى الأرض
وقال أبو عمرو بن العلاء: أحسنُ ما قيل في صفة الجيش قول النابغة:
إنّي لأخشى عليكم أنْ يكونَ لكم ... مِنْ أجْلِ بَغْضائِكُمْ يَوْمٌ كأيّامِ
أوْ تَزجُروا مُكْفهِرّاً لا كِفاَء له ... كالَّليْلِ يَخْلِطُ أصْراماً بأصْرامِ
تَبْدو كواكِبُه والشَّمْسُ طالِعةٌ ... نوراً بِنورٍ وإظْلاماً بِإظْلامِ
أو تزجروا عطف على ما قبله، والمُكْفهِرّ: الجيش العظيم، ولا كِفاءَ له: لا نظير له، ويخلط أصراماً بأصرام إمّا جعلته صفةً لليل والأصْرام جمعُ صريم وهو الليل المظلم فيكون المعنى يخلط مُظلماً بمظلم، وإمّا جعلته صفةً للجيش فيكون المعنى: يخلط كلّ حي بقبيلته خوفاً من الإغارة عليه، وقوله تبدو كواكبه. . . البيت يريد: شِدّة الهول والكرب، وهذا كما تقول العامة: أرَيْتُه النُّجومَ وسطَ النهار.
قال الفرزدق:
أريكَ نُجومَ اللّيلِ والشَّمْسُ حَيَّةٌ
وقال طرفة:
وتُريكَ النَّجْمَ يَجْري بالظُّهُرْ
وفي هذا المعنى يقول جرير:
والشَّمْسُ طالِعةٌ لَيْسَتْ بِكاسِفةٍ ... تبكي عليك نُجومَ الليلِ والقَمَرا
يقول: إن الشمس طالعة وليست بكاسفة نجومَ الليل، لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس، فنجوم مفعولُ كاسفة
قالوا: وأحسنُ من قولِ النابغة قولُ زيد الخيل:
بَني عامرٍ هلْ تَعْرِفونَ إذا غَدا ... أبو مِكْنَفٍ قدْ شَدَّ عَقْدَ الدَّوابِرِ
بِجيشٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراتِه ... تَرى الأكْمَ منه سُجَّداً للحَوافِرِ
وجَمْعٍ كمثلِ الليلِ مُرْتَجِس الوَغى ... كثيرٍ تواليه سَريعِ البَوادِرِ
قوله: قد شدَّ عقدَ الدوابر أراد: شدَّ دوابِرَ البَيْضة - أي مآخيرَها - بالدَّرْع لئلا تسقط إذا ركض الفارس: وقوله: تضلُّ البلق في حَجراته فحَجَراته: نواحيه جمعُ حَجْرة يقول: لكثرته لا يُرى به الأبلق والأبلقُ مشهورُ المنظر لاختلاف لونَيْه - السواد والبياض - وكان رؤساء العرب لا يركبون البُلْقَ في الحرب لئلا تنِمَّ عليهم فيُقْصَدوا بشرّ، وقوله: ترى الأكْمَ منه سجداً للحوافر يقول: لكثرة الجيش يَطْحَن الأكم حتّى يُلْصقَها بالأرض:
يَدَعُ الأكامَ كأنَّهن صحارى
وقوله: كمثل الليل يريد: ظلمةً يكاد سوادُه لكثرته يسدُّ الأفق، والوغى: الأصوات، والارتجاس: صوت الشيء المختلط العظيم كالجيش والرعد، والتوالي: اللواحق
ومن بارع ما قيل في الكيد في الحرب قولُ أبي تمام:
هَزَزْتَ له سَيْفاً من الكيدِ إنّما ... تُجَذُّ به الأعْناقُ ما لَمْ يُجَرَّدِ
يَسُرُّ الذي يَسْطو به وهْوَ مُغْمَدٌ ... ويَفْضَحُ مَنْ يَسْطو بهِ غيرَ مُغْمَدِ
يقول: إن أخفيت الكيدَ ظفِرْتَ وسُررت، وإن أظهرته افتِضِحْت وخِبْتَ
وقال يصف أفاعيل رُمْح الممدوح في أعدائه:
أنْهَبْتَ أرْواحَه الأرْماحَ إذْ شُرِعَتْ ... فَما تُرَدُّ لِرَيْبِ الدَّهْرِ عَنْه يَدُ
كأنَّها وهْيَ في الأوْداجِ والِغةٌ ... وفي الكُلى تَجِدُ الغَيْظَ الذي تَجِدُ
مِنْ كُلِّ أزْرقَ نَظَّارٍ بلا نَظَرٍ ... إلى المَقاتلِ ما في مَتْنِه أوَدُ
كأنَّه كانَ خِدْنَ الحُبِّ مُذْ زَمَنٍ ... فلَيْسَ يُعْجِزُه قَلْبٌ ولا كَبِدُ
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
20 نوفمبر 2024
تعليقات (0)