المنشورات

ما غُزي قومٌ قطّ في عقر دارهم إلا ذلُّوا

ومِنْ خُطْبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد انتهى إليه: أنّ خيلاً لمُعاويةَ وردت الأنبارَ فقتلوا عاملاً له يُسمى حسانَ بن حسان، فخرج مُغْضباً يَجُرُّ ثوبَه حتى أتى النُّخيلة واتّبعه الناس فَرقِيَ ربارةً من الأرض فحَمِد اللهَ وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال:
أمّا بعدُ فإنّ الجِهاد بابٌ من أبواب الجنة، فمَنْ تركَه رغبةً عنه ألبسهُ اللهُ الذُّلَّ، وسيمَ الخَسْفَ، ودُيِّثَ بالصَّغار، وقد دعوتكم إلى حربِ هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسِرّاً وإعْلاناً وقلتُ لكم: اغْزوهم من قبلِ أن يغزوكم فوَ الذي نفسي بيده: ما غُزيَ قومٌ قطُّ في عُقْرِ دارِهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم وتواكلتُم وثقُلَ عليكم قولي واتَّخذْتُموه وراءَكم ظِهْريَّاً، حتّى شُنَّت عليكم الغاراتُ، هذا أخو غامِدٍ قد وردت خيلُه الأنبارَ وقَتلوا حسانَ بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساءً، والذي نفسي بيده لقد بلغني أنّه كان يُدْخلُ على المرأة المسلمة والمُعاهدة فتُنْتزع أحْجالُهما ورُعْثُهما ثم انصرفوا موفورين لم يُكْلَمْ منهم أحدٌ كلْماً، فلو أنّ امْرأً مُسلِماً مات من دون هذا أسَفاً ما كان فيه مَلوماً بل كان به عندي جَديراً. يا عجباً كلَّ العجب، عجبٌ يميتُ القلبَ ويشغل الفهمَ ويُكثر الأحزان، مِنْ تضافرِ هؤلاء القوم على باطِلهم وفَشلِكم عن حقِّكم حتّى صَبحتم غَرضاً تُرْمَوْنَ ولا تَرْمونَ، ويُغارُ عليكم ولا تُغيرون، ويُعْصى اللهُ عزَّ وجلَّ فيكم، ولا تَرْضَوْن، إذا قلتُ لكم: اغزوهُمْ في الشتاء قلْتُمْ: هذا أوانُ
قُرٍّ وصِرٍّ، وإنْ قلت لكم: اغزوهم في الصّيف قلتم: هذه حَمارّةُ القَيظِ أنْظِرْنا يَنْصرمُ الحَرُّ عَنّا، فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفِرّون فأنتم واللهِ من السيف أفرُّ، يا أشباهَ الرجالِ ولا رجال، ويا طَغامَ الأحلامِ، ويا عُقولَ ربَّاتِ الحِجالِ، واللهِ لقد أفسدتم عليّ رأيِي بالعِصْيان، ولقَدْ ملأتم جوفي غَيْظاً، حتّى قالت قريشٌ: ابن أبي طالب رجلٌ شجاعٌ ولكن لا رأيَ له في الحرب! لله درُّهم، ومن ذا يكون أعلمَ بها منِّي أو أشدَّ لها مِراساً! فو الله لقد نهضْتُ فيها وما بلغت العشرين. ولقد نَيَّفْتُ اليوم على الستّين ولكن لا رأيَ لِمَنْ لا يُطاع. . . وإليك شرح بعض ألفاظ هذه الخطبة الخالدة، قوله: وسيم الخسف معناه: كُلِّف وألزِمَ وجُشِّم قال تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ}. أي يُجشمونكم أشدَّ العذاب، فسيم: كُلِّف وألزم، والخسف: الذلُّ والهوان، وأصله أن تُحبسَ الدابَّة على غير علفٍ ثم استُعيرَ فوُضِعَ موضعَ الهوان: ودُيِّث: ذُلّل. ومنه اشتقاق الدّيّوث وهو: الرجل الذي لا غيرةَ له. وقوله: في عُقر دارهم: أي في أصل دارهم، والعُقر: أصل كلِّ شيء ومن ثمّ قيل. لفلان عَقارٌ: أي أصل مالٍ يعتمد عليه من منزل وضيعة ونخيل ونحو ذلك. وقوله: وتواكلتم يقال: وكَلْتُ الأمرَ إليك ووَكَلْتَه أنْتَ إليَّ: أي لم يتولَّه واحدٌ منّا دونَ صاحبِه ولكن أحالَ به كلُّ واحدٍ منّا على الآخر: وقوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً}: أي رميتُم به وراءَ ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، ويقال في المثل: لا تجعل حاجتي منك بِظَهْرٍ: أي لا تطرحها غير ناظِرٍ إليها، وقوله: حتّى شنَّت عليكم الغارات: أي صُبَّت وبُثَّت عليهم من كلِّ وجه. وقوله: فتنتزع أحْجالَهما يعني: الخلاخيل واحدُها حِجل. والرُّعْث: جمع رعاث جمع رَعْثة والرَّعْثة: الشَّنْفُ أي القُرْط الذي يُوضع في الأذن، وقوله: وانصرفوا موفورين أي: لم يُرْزؤا، أي لم يُصابوا ولَمْ يُنلْ أحدٌ منهم في بَدنِه ولا مالِه. ولم يُكْلمْ أحدٌ منهم أي لم يُخْدشْ أحدٌ منهم خدشاً. وكلُّ جرحٍ صغر أو كبرَ فهو كَلم. وقوله مات من دون هذا أسفاً يريد: تَحَسُّراً. وقوله: من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم أي: مِنْ تَعاونهم وتظاهُرهم. ويقال: فشل فلان عن كذا: إذا هابَه جُنباً وفزعاً فأحْجم عنه وامتنع من المضيِّ فيه. والقُرّ - بضم القاف - البَرْد أما القَرَّ - بالفتح - فهو اليوم البارد. والصِّرّ - بكسر الصاد - شِدّة البرد. قال تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}. والقيظ: الصيف، وحَمارَّتُه: اشتدادُ حَرّه واحتدامُه. والطَّغام: مَن لا عقلَ له ولا معرفة عنده. وقوله: ويا عقول ربّات الحِجال: فالحِجال جمع الحَجَلة وهْي كالقُبّة وبيت
للعروس يزيّن بالثياب والسُّتور، ينسبهم إلى ضعف النساء
ومِنْ روائعِ الشعرِ القديمِ في باب الحثِّ على الإقدام والذّودِ عن الذِّمارِ ووصف الأبطال والمُتخاذِلين المُتباطئين قولُ شاعر من بني العنبر اسمُه قُرَيْطُ بنُ أُنيف - شاعر إسلامي - وكان ناسٌ من بَني شيبان قد أغاروا عليه فأخذوا له ثلاثينَ بعيراً فاستنجد قومَه فلم يُنْجدوه فأتى مازنَ تميم فركب معه نفرٌ فأطْرَدوا لبني شيبان مائةَ بعيرٍ فدفعوها إليه فقال هذه الأبياتَ التي افتتح بها أبو تمام حماسته:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مازنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلي ... بَنو الشّقيقةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيْبانا
إذاً لَقامَ بِنَصْري مَعْشَرٌ خُشنٌ ... عِندَ الحَفيظةِ إنْ ذو لَوْثةٍ لانا
قَوْمٌ إذا الشَّرُ أبْدى ناجِذَيْه لهُمْ ... طاروا إليهِ زَرافاتٍ ووُحْدانا
لا يَسْألونَ أخاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ ... في النائِباتِ على ما قالَ بُرْهانا
لكِنَّ قَوْمي وإنْ كانوا ذَوي عَددٍ ... لَيْسوا مِنَ الشَّرِّ في شَيْءٍ وإنْ هانا
يَجْزونَ مِنْ ظُلْمِ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرةً ... ومِنْ إساءةِ أهْلِ السّوءِ إحْسانا
كأنَّ ربَّكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِه ... سِواهُمُ مِنْ جَميعِ النّاسِ إنْسانا
فلَيْتَ لي بِهِمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
بنو الشقيقة هي الروايةُ الصحيحةُ وإنْ كانت رواية شُرّاح الحماسة: بَنو اللقيطة، والشقيقة: امْرأةٌ من بَني ذُهْلِ بن شَيْبان، وبَنوها كانوا سيَّارةً مَرَدةً ليس يأتون على شَيْءٍ إلا أفسدوه، وأما اللقيطةُ فهْي امرأةٌ من فَزارة، هكذا زعم أبو محمد الأعرابيّ. والاستباحة: في معنى الإباحة وهي شِبْه النُّهْبَى، استباحه: انتهبَه حتّى لكأنّه مُباحٌ لا تَبِعَةَ عليه فيه، وخُشن جمع أخْشن وهو من صفات الرِّجال مَثَلٌ يُراد به امتناعُ الجانب وإباءُ الضَّيْم. ورجلٌ ذو لوثة: بطيءٌ مُتَمَكّث ذو ضعفٍ واسترخاء، يقول: لو لم أكن من بني العنبر وكنت من بني مازن ثمّ نالني من بني الشقيقة ما نالني من استباحتِهم إبلي لكان لي منهم من ينصُرُني عليهم ويأخذ بحقِّي اقتِساراً منهم إذا لأن ذو الضَّعف والوهن فلم يدفع ضَيْماً ولم يحمِ حقيقة، ومُراد الشاعر تَهْييجُ قومِه على الانتقام له من أعدائه لا إلى ذَمِّهم، والحفيظة: الغضب والحميّة والمنع للشيء الذي ينبغي أن يُحافَظَ عليه. وقوله: قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم فإبداءُ الشرّ نواجذَه مثلٌ لشدّته وصَوْلته، وذلك أن السَّبُعَ إذا صال أو شدَّ كَشّر عن أنْيابِه، فشبَّه
الشَّرَّ به في حال شدّته، وطاروا إليه يريد: أسرعوا إليه، ووُحْدانا جمع واحد كراكب ورُكبان، والزَّرافات: الجَماعات، يقول في هذا البيت. إنهم لحرصهم على القتال وحبّهم إيّاه لا ينتظر بعضُهم بعضاً، لأنّ كُلاًّ منهم يعتقد أنّ الإجابة تعيَّنَتْ عليه، فإذا سَمِعوا بذكر الحرب أسرعوا إليها مُجتمعين ومُتفرِّقين، ومثله قول حُمَيْد بن ثور الهلاليّ الصَّحابي:
قَوْمٌ إذا هَتَفَ الصَّريخُ رأيْتَهُمْ ... ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
وقوله: لا يسألون أخاهم. . . البيت يقول: إذا دُعوا إلى الحرب أسرعوا إليها غير سائلين من دعاهم لها، ولا باحثين عن سَببها، لأنّ الجبانَ رُبّما تعلَّل بذلك فتباطأ عن الحرب. ونحوه قولُ سلامة بن جندل:
إنّا إذا ما أتانا صارِخٌ فَزِعٌ ... كانَ الصراخَ لهُ قَرْعُ الظّنابيبِ
يقول سلامة: إذا دعانا إلى إعانته أجَبْناه إليها مُجدّين، والظُّنوب: عَظْمُ الساق، يقال: قَرَعَ لهذا الأمرِ ظُنوبَه: إذا جدَّ فيه وقوله: لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عدد. . . . ألبيت وصف قومه بأنهم يؤثرون السلامة والعفو عن الجُناة ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا الانتقام لقَدَروا بعددهم وعُدَدِهم. هذا إذا كان الشاعر لا يريد كما قلنا هجاءَ قومِه وإنّما يريد حثَّهم على الانتقام، أمّا إذا كان يريد ذمَّهم فإنّه يهجوهم ويعيِّرهم بالجُبن في هذا البيت. وقوله: كأنَّ ربك. . . . البيت تهكُّمٌ منه وسخرية. ومعنى قوله: فُرْسانا ورُكباناً: أنهم كانوا يُقاتلون على الخيل والإبل، ومِنْ ذا قولُ عمرَ بن الخطاب لسعدِ بن أبي وقّاص في حرب القادسية: أخبرني: أيُّ فارسٍ كانَ أشْجْعَ؟ وأيُّ راكبٍ كانَ أشدَّ غَناءً؟ وأيُّ راجِلٍ كانَ أصْبر؟ فذَكَرَهُمْ له وميَّزَهم.
ومن طريفِ أبياتِ الحماسة التي أوردها أبو تمام في حماسته والمبرِّد في الكامل أبياتٌ قال المبرّد: إنّها لأعرابيٍّ من بني سعد ونَسبها أبو تمام إلى الهُذْلول بنِ كعب العنبري - وكلاهما شاعر جاهلي - وكان هذا القائل مُمْلَكاً - أي عُقِدَ له على امرأة ولم يبتنِ بها - فنزل به أضيافٌ فقامَ إلى الرَّحى فطَحَنَ لهم، فمرَّت به زوجتُه في نِسوةٍ، فقالت لهن: أهذا بعلي؟ فأُعْلِمَ بذلك فقال:
تَقولُ: وصَكَّتْ نَحْرَها بِيَمينِها: ... أبَعْلِيَ هَذا بالرَّحى المُتقاعِسُ؟
فقُلْتُ لَها: لا تَعْجَلي وتَبَيَّني ... فَعالي إذا التفَّتْ عليَّ الفوارِسُ
ألَسْتُ أرُدُّ القِرْنَ يَرْكَبُ رَدْعَه ... وفيهِ سِنانٌ ذو غِرارَيْنِ نائِسُ 

وأحْتَمِلَ الأوْقَ الثَّقيلَ وأمْتَري ... خُلوفَ المَنايا حينَ فرَّ المُغامِسُ
وأقْري الهُمومَ الطَّارِقاتِ حَزامَةً ... إذا كَثُرَتْ للطَّارِقاتِ الوَساوِسُ
إذا خامَ أقْوامٌ تَقَحَّمْتُ غَمْرَةً ... يَهابُ حُمَيَّاها الأكَدُّ المُداعِسُ
لَعَمْرُ أبيكِ الخيرِ إنّي لَخادِمٌ ... لِضَيْفي وإنّي إنْ رَكِبْتُ لَفارِسُ
وإنّي لأشْري الحَمْدَ أبْغي رَباحَه ... وأتْرُكُ قِرْني وهْوَ خَزْيانُ ناعِسُ
القَعَس: دخول الظهر وخروج الصدر، وهو نقيض الحَدَب، وقول المرأة: أبعلي هذا؟ إشارةُ تحقيرٍ، تعْجَبُ ممّا رأت، وقوله: بالرحى المتقاعس فإنّ بالرحى تبيينٌ ومعنى ذلك أن كلمة المتقاعس تدلُّ على أنّ هناك تقاعساً ولمّا قال بالرّحى دلّ ذلك على أنّ التقاعسَ حدث بالرحى، ولم يُرِدْ أن يُعمِلَ المتقاعسَ في قوله بالرحى لأنّ ذلك على ما قال النحاةُ ممنوعٌ، لأنّ أل في المتقاعس اسمٌ موصول كالذي وبالرحى صلة ولا يجوزُ أن تتقدم الصلةُ على الموصول. وقوله: ألَسْتُ أردُّ القِرْنَ يركب رَدعه، فالقِرن: من يقاومك في قتال، وقوله: يركب رَدْعه، قيل: الردع ههُنا: الدَّمُ على سبيل التشبيه برَدْعِ الزّعفران، ومعنى ركوبه دمَه: أنّه جُرح فسال دمُه فسقط فوقَه مُتّشحاً به، وقيل: الرَّدْع: العنق أي سقط على رأسه فاندقّت عُنُقُه، وقيل معناه: صُرع منكوساً رأسُه أسْفلَه، مِن ارْتدعَ السّهمُ: إذا رَجعَ النَّصلُ متأخراً في السِّنْخ. وذو غِرارين: ذو حَدَّين، ونائِس: مُضطرب، من ناسَ يَنوسُ: إذا تحرّك واضطرب، وتُروى: يابس ومعناه: صُلْبٌ ذكرٌ لا تأنيثَ فيه. والأوْقُ: الثِّقل وقد آقَ عليه يَؤوق: مال بِثِقَلِه، ووصفه بالثقيل مبالغةٌ. والخُلوف جمع خِلْف - بالكسر - وهو في الأصل: ضَرْعُ الناقة، وامتراؤه: استخراج ما فيه من اللبن. يريد: أنه يستخرج خبيئاتِ المنايا بأفاعيلِه المُدهشة وقد جدَّ الخطبُ واشتدّت الحرب، والمُغامس: الذي ينغمس في لُجّة الحرب لا يبالي أصابَ أم أصيب، وقوله: وأقري الهمومَ الطارقاتِ حَزامة. . . ألبيت يقول: أحزمُ عندها إذا اشتدّت وكثُرت أحاديثُ النفسِ بها. وخام: جَبُنَ ونَكَصَ يقال: خامَ عن القتال يَخيم خَيْماً وخيماناً: جَبُنَ. والحُمَيّا: صدْمةُ الشرِّ، والألدُّ في الأصل: الشديدُ الخصومة الذي يَحيد عن الحق، والمُراد هنا الذي لا ينثني عن الحرب. والمُداعس: المُطاعن يقال: دَعَسَه بالرُّمح: إذا طعنه. والرَّباح مصدر كالرِّبح وقوله: وأترك قرني الخ
يقول: أُهينه فأكسرُه حتّى يَبقى مُطْرِقاً مُتَنَدِّماً كمَنْ غلَبَه النعاسُ، وقيل معنى ناعس: مُشرف على الموت يقال طَعَنْتُ صاحبي فأنَمْتُه: أي قتلتُه.
وقالَتْ ليلى الأخْيَلِيّة وهي من أبيات الحماسة:
لا تَغْزُوَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالِماً أبَداً ولا مَظْلوما
قَوْمٌ رِباطُ الخَيْلِ وَسْطَ بُيوتِهِمْ ... وأسِنَّةٌ زُرْقٌ تُخالُ نُجوما
ومُخَرَّقٍ عَنْه القَميصُ تَخالُه ... وَسْطَ البُيوتِ مِنَ الحَياءِ سَقيما 

حتَّى إذا رُفِعَ اللِّواءُ رَأيْتَه ... تَحْتَ اللِّواءِ عَلى الخَميسِ زَعيما
قولها: لا تَغْزُوَنَّ يروى لا تَقْرَبنَّ وقولها: لا ظالِماً أبداً ولا مظلوما تريد: لا مُبْتَدِئاً لهم بالحرب من غير أن يُحارِبوك ولا مُنْتقماً مِنْهم إنْ حاربوك، لأنّهم أولو بأسٍ شديدٍ لا يُطاقون على أي حال، ويُروى:
لا ظالماً فيهم ولا مظلوما
قال البكري شارحُ الأمالي: وهذه الرِّوايةُ هي الجيّدة لوجهين أحدُهما: أنّها أفادت معنى حسناً، لأنّه قد يكون ظالماً أو مظلوماً من غيرهم فيستجير بِهم لِرَدِّ ظُلامتِه، أو لاسْتِدْفاع مكروهِ عقوبته فلا بُدَّ لهم من إجارتِه، والوجهُ الثاني أن قولها: لا تقربنَّ الدَّهْرَ قد أغنى عن قولها: أبداً، فصار حَشْواً لا يُفيد معنًى، وقولها: قومٌ رباط الخيل. . . ألبيت تقول: إنّهم أصحابُ خيل ورماح مستعدون أبداً لدفع الأعداء والذَّوْدِ عن حِياضهم، وأسِنَّةٌ زُرْقٌ: صافيةٌ لامِعَةٌ كأنّها نجوم في الصّفاء واللّمعان، وقولها: ومُخَرَّق عنه القميص فيه قولان: أحدُهما: أنَّ ذلك إشارةٌ إلى جَذْبِ العُفاة له، والثاني: أنّه يُؤْثِرُ بِجَيِّدِ ثيابِه فيَكْسوها ويكتَفِي بِمَعاوِزِها - أي الثياب البالية مِنها لأنها ثيابُ المُعْوِزين - وقولها: تخاله من الحياء سقيما تريد أنّه لإمعانِه في الكرم والسخاء تظنه سقيماً من الحياء خشيةَ أن لا يكونَ قد بلغَ من إكرام الضيف ما ينبغي، تمدحه بالجود كما تمدحه بالشجاعة. والخميس: الجيش، والزعيم: الكفيل والرئيس.
وقال بعضُ بني مازِن:
وقدْ علِموا بأنَّ الحَرْبَ لَيْسَتْ ... لأصْحابِ المَجامِرِ والخَلُوقِ
ضَرَبْناكُمْ على الإسلامِ حتّى ... أقَمْناكم على وَضَحِ الطَّريقِ 

المجامِر: المَباخِر، أي التي تُوضَعُ فيها النارُ والبخور ليُتَبَخَّرَ بِها ويُتَطَيَّب، والخَلوق: طيبٌ معروفٌ يُتّخذ من ألوانٍ شتّى من الطّيب، وقيل: الزّعفران
وقال أبو تمّام في مرثيَّته المشهورة لمحمد بن حميد الطوسي التي أوّلُها:
كَذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الأمْرُ ... فلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ
قال:
فتًى ماتَ بينَ الطَّعْنِ والضَّرْبِ ميتةً ... تَقومُ مَقامَ النَّصْرِ إذْ فاتَه النَّصْرُ
وما ماتَ حتّى ماتَ مَضْرِبُ سَيْفِه ... مِنَ الضَّرْبِ، واعْتَلَّتْ عَلَيْه القَنا السُّمْرُ
وقدْ كانَ فَوْتُ المَوْتِ سَهْلاً فَرَدَّه ... إليهِ الحِفاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
ونَفْسٌ تَعافُ العارَ حتّى كأنّما ... هُوَ الكُفْرُ يومَ الرَّوْعِ أوْ دونَه الكُفْرُ
فأثْبَتَ في مُسْتَنْقَعِ المَوْتِ رِجْلَه ... وقالَ لَها: مِنْ تَحْتِ أخْمَصِكِ الحَشْرُ
غَدا غُدْوَةً والحَمْدُ نَسْجُ رِدائِه ... فلَمْ يَنْصَرِفْ إلا وأكْفانُه الأجْرُ
تَرَدَّى ثِيابَ المَوْتِ حُمْراً فما دَجا ... لَها اللّيلُ إلا وهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ
قوله: تقوم مقامَ النصرِ: لأنّه قُتل قِتْلةَ بطلٍ شجاعٍ، إذْ لم يقتل حتّى تثَلَّمَ حدُّ سيفِه من شدَّة ما ضَرب به وحتّى تقصَّفتِ الرِّماحُ في يديه كما قال في البيت التالي، قال نَقَدَة الشعر: إن أبا تمام نظر في هذا المعنى إلى قول عروة بن الورد:
ومَنْ يَكُ مِثْلي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً ... مِنَ المالِ يَطْرَحْ نَفْسَه كُلَّ مَطْرَحِ
لِيَبْلُغَ عُذْراً أوْ يَنالَ رَغيبةً ... ومَبْلِغُ نَفْسٍ عُذْرَها مِثْلُ مُنْجِحِ
قالوا: إنّ عروةَ جعل اجتهادَه في طلب الرزق عُذراً يقوم مقامَ النّجاح وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو أقصى اجتهاد المجتهد في لقاء الأعداء قائماً مقام النصر. هذا، ومضربُ السيف: حدُّه، وقوله: واعتلَّتْ عليهِ القَنا السُّمْرُ فمعنى اعتلال القنا أن العلة أصابتها فلم تستطع العملَ معه وتحقيقَ مطالِبِ هِمَّته من الصمود للأعداء، أو تقول: معنى اعتلالها: أنّها تَجَنَّتْ عليه الذنوبَ واتّخذت ذلك ذريعةً إلى العصيان والخلاف عليه، وما ذنبُه عِندها إلا كثرةُ تكاليفها الطعن لا يُريحها من ذلك، والحِفاظ: الحميَّة والغضب مُحافظةً على الحُرْمَة وكلِّ ما يجب على المرءِ حمايتَه، والخلق الوعر: الشديد الأنفة، ولا يُمْدح به إلا في العداوَة. قال المازني:
تُعاتِبُني فيما تَرى مِنْ شَراسَتي ... وشِدَّةِ نَفْسي أمُّ سَعْدٍ وما تَدْري
فقلتُ لَها: إنَّ الكريمَ وإنْ حَلا ... لَيُوْجَدُ أحْياناً أمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ
الروع هنا: الحرب وفي الأصل: الخوف. وقوله: فأثبت في مستنقع الموت رجله. . . ألبيت. جعل للموت مستنقعاً كمستنقع الماء، وهو: مُجتمعُهُ في بطن الوادي، وأخْمصُ القدم: مالا يصيبُ الأرض من باطنها يقول: إنَّه لشجاعته قد صمد للموتِ فلا تتحول رِجْلُه إلى أن يموتَ حتّى كأنَّ الحشرَ - يوم يُحشر الناس إلى ربهم يوم القيامة - من تحت أخْمَصِه. وقوله: غدا غدوة. . . ألبيت يقول: إنّه عاش محموداً مشكوراً ومات مثوباً مأجوراً. وقوله: تردّى ثياب الموت. . . ألبيت يقول: إنّه ارتدى الثياب المُلَطَّخة بالدم فلم يَنْقَضِ يومُ قَتْلِه ولم يَدْخُلْ في ليلتِه إلا وقدْ صارَتْ الثيابُ خُضْراً مِنْ سُندسِ الجَنَّة. قال علماء البيان: في هذا البيتِ الطِّباقُ المُسمّى بالتَّدْبيح، وهو أنْ يذكرَ الشاعرُ أو الناثرُ في معنًى من المدح أو غيره ألْواناً لِقَصْد الكنايةِ أو التَّوْرِية، ويُسمّى تَدْبيحَ الكناية أيضاً، فإنه هنا ذكر لون الحُمْرةِ والخُضْرَةِ والمُرادُ من الأول الكنايةُ عن القتلِ ومن الثاني الكنايةُ عَنْ دُخول الجنة
وقال البُحْتُرِيُّ:
مَعْشَرٌ أمْسَكَتْ حُلومُهُمُ الأرْ ... ضَ وكادَتْ لَوْلاهُمْ أنْ تَميدا
فإذا الجَدْبُ جاَء كانوا غُيوثاً ... وإذا النَّقْعُ ثارَ ثارُوا أسُودا
وكأنَّ الإلَهَ قالَ لَهُمْ في الْ ... حَرْبِ كونوا حِجارةً أو حَديدا
وقال مسلم بن الوليد:
لَوْ أنَّ قَوْماً يَخْلُقونَ مَنِيَّةً ... مِنْ بأسِهِمْ كانوا بَني جِبْريلا
قورٌ إذا حَمِيَ الوطيسُ لديهِمُ ... جَعلوا الجَماجِمَ للسُّيوفِ مَقيلا
وقيل للمُهلَّب بن أبي صُفْرة: إنّكَ لَتُلْقي نَفْسَك في المَهالِكِ! فقال: إنْ لَمْ آتِ الموتَ مُسْترْسِلاً، أتاني مُسْتَعْجلاً، إنّي لستُ آتي الموتَ من حُبِّه، وإنَّما آتيه مِنْ بُغْضِه، وتَمثّلَ بقولِ الحُصَيْن بن الحمام:
تأخَّرْتُ أسْتَبْقي الحياةَ فلَمْ أجِدْ ... لِنَفْسِي حياةً مِثْلَ أنْ أتَقَدَّما
وقَدْ تَقدَّم وقال المتنبي:
شُجاعٌ كأنَّ الحَرْبَ عاشِقةٌ لَه ... إذا زارَها فَدَّتْه بالخَيْلِ والرَّجْلِ
المُراد بالخيل: الفرسان، والرَّجْل جمع راجل يقول: هو شجاع يَقْتلُ ولا يُقْتلُ فكأنَّ الحرب تعشقه فإذا زار الحرْبَ استَبْقَتْه وأفنت مَنْ سِواه من الفرسان والرجال، فكأنّما جَعَلتْهم فِداءً له.
وقال:
وكَمْ رِجالٍ بِلا أرْضٍ لِكَثْرتِهِمْ ... تَرَكْتَ جَمْعَهُمُ أرْضاً بِلا رَجُلِ
ما زال طِرْفُك يَجْري في دِمائِهِمُ ... حتّى مَشى بِكَ مَشْيَ الشّارِبِ الثَّمِلِ
قوله: وكم رجال. . . ألبيت يقول: كم جمع الأعداءُ لك جُموعاً تغيبُ الأرضُ من كثرتهم وتخفى على الأبصار حتّى كأنّهم رجالٌ بلا أرض فقتلتهم وأفنيتَهم حتّى خلِيَت أرضهم فبقيت ولا رجلَ فيها، وفي هذا البيت نظر من ناحية كثرة الجيش إلى قول أبي تمَّام في صفة جيش:
مَلأَ المَلا عُصَباً فكادَ بأنْ يُرى ... لا خَلْفَ فيهِ ولا لَه قُدّامُ
وقوله: ما زال طِرفك. . . . ألبيت، فالطِّرْف: الفرس الكريم، والثَّمِل السّكران، يقول: ما زِلْتَ تخوض دماءَهم بفرسِك حتّى تعثّر بالقتلى وأمالَتْه دماؤُهم عن سُنَنِ جَرْيِِه وأزْلَقَتْه حتّى مشى بك مشْيَ السكران
وقال الشَّابُ الظّريفُ من قصيدةٍ له يمدح بها ابن عبد الظاهر:
ومَعْشَرٍ لَمْ تَزَلْ لِلْحَرْبِ بِيضُهُمُ ... حُمْرَ الخُدودِ وما مِنْ شَأنِها الخَجَلُ 

إذا انْتَضَوْها بُروقاً صُيِّرَتْ سُحُباً ... يَسيلُ مِنْ جانِبَيْها عارِضٌ هَطِلُ
يَثْني حَديثُ الوَغى أعْطافَهُمْ طَرَباً ... كأنَّ ذِكْرَ المَنايا بَيْنَهُمْ غَزَلُ
كَمْ نارِ حَرْبٍ بِهِمْ شُبَّتْ وهُمْ سُحُبٌ ... وأرْضِ قَوْمٍ بِهِمْ فاضَتْ وهُمْ شُعَلُ
وقال الشاعر أبو الفرج البَبَّغاء شاعرُ اليتيمة:
يَسْعى إلى المَوْتِ والقَنا قِصَدٌ ... وخَيْلُه بالرؤوس تَنْتَعِلُ
كأنَّه واثِقٌ بأنَّ لَه ... عُمْراً مُقيماً وما لَه أجَلُ
والقنا قِصَدٌ: أي قِطَعٌ، والمفرد: قِصْدَة وهي: القِطعة من الشيء إذا انكسر
وقال آخر:
كأنَّ سُيوفَه صيغَتْ عُقوداً ... تَجولُ عَلى التَّرائِبِ والنُّحورِ
وسُمْرَ رِماحِه جُعِلَتْ هُموماً ... فَما يَخْطُرْنَ إلا في ضَميرِ
ومن كلام علي بن أبي طالب: رُبَّ حياةٍ سَببُها التَّعرُّضُ للموت، ورُبَّ منيَّةٍ سببُها طلبُ الحياة.
وبعد فإنّ عبقرياتِهم في الشجاعة والتمدُّح بها لا تكاد تُحصى كثرةً، وإنّ الناظرَ في الأدب العربيِّ ولا سيَّما المَنْظوم منه يتحقّق من أنّ الشجاعةَ والإشادةَ بها تكاد تكون أحدَ شَطْرَيْ ما يتمدّحون به ويُنوِّهون بفضله، أمّا الشَّطْرُ الآخرُ فهو الجودُ والكرم، وبِحَسْبك بهاتَيْن الخَلَّتين، وإنّهما دَعامَتا سائرِ الفَضائل، ولْنَجْتَزِئ بِهذا المقدار وإنْ كانَ قَطْراً من بَحْرٍ 

















مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید