المنشورات
وصف آلات الحرب
قال البُحتري يَصِف السيف:
يَتَناوَلُ الرُّوْحَ البَعيدَ مَنالُه ... عَفْواً، ويَفْتَحُ في القَضاءِ المُقْفَلِ
ماضٍ وإنْ لَمْ تُمْضِهِ يَدُ فارِسٍ ... بَطلٍ، ومَصْقولٌ وإنْ لَمْ يُصْقَلِ
يَغْشى الوَغى فالتُّرْسُ لَيْسَ بِجُنَّةٍ ... مِنْ حَدِّه والدِّرْعُ ليسَ بِمَعْقِلِ
مُصْغٍ إلى حُكْمِ الرَّدى، فإذا مَضى ... لَمْ يَلْتَفِتْ، وإذا قَضى لَمْ يَعْدِلِ
مُتألّقٌ يَفْري بِأوَّلِ ضَرْبَةٍ ... ما أدْرَكَتْ ولَوَ انّها في يَذْبُلِ
وإذا أصابَ فَكُلُّ شَيْءٍ مَقْتَلٌ ... وإذا أُصيبَ فَما لَه مِنْ مَقْتَلِ
وقال عبدُ الله بن المعتز يصفُه:
ولي صارِمٌ فيهِ المَنايا كَوامِنٌ ... فَما يُنْتَضى إلا لِسَفْكِ دِماءِ
تَرى فوقَ مَتْنَيْه الفِرِنْدَ كأنَّه ... بَقيّةُ غَيْمٍ رَقَّ دونَ سَماءِ
وقال ابن الرُّومي:
خَيْرُ ما اسْتَعْصَمَتْ بهِ الكَفُّ عَضْبٌ ... ذَكَرٌ هَزُّهُ أنيثُ المَهَزِّ
ما تَأَمَّلْتَه بِعَيْنِكَ إلا ... أُرْعِدَتْ صَفْحَتاهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّ
مِثْلُه أفْزَعَ الشُّجاعَ إلى الدِّرْ ... عِ فَغالى بِها عَلى كُلِّ بَزِّ
ما يُبالي أصَمَّمَتْ شَفْرتاهُ ... في مَحَزٍّ أمْ حادَتا عَنْ مَحَزِّ
ولما صار الصمصامةُ سيفُ عَمْرو بن مَعْد يكربَ إلى موسى الهادي أذِنَ للشُّعراءِ أنْ يَصِفُوه، فبَدَأهُمْ ابْنُ يامينَ فقال:
حازَ صَمْصامةَ الزُّبَيْدِيِّ مِنْ دو ... نِ جَميعِ الأنامِ موسى الأمينُ
سَيْفَ عَمْرٍو وكانَ فيما سَمِعْنا ... خَيْرَ ما أغْمِدَتْ عليهِ الجُفونُ
أخْضَرَ المَتْنِ بينَ حَدَّيْهِ نورٌ ... مِنْ فِرِنْدٍ تَمْتَدُّ فيهِ العُيونُ
أوْقَدَتْ فوقَه الصَّواعِقُ ناراً ... ثُمَّ شابَتْ بهِ الذُّعافَ القُيونُ
فإذا ما سَلَلْتَهُ بَهَرَ الشَّمْ ... سَ ضِياءً فلَمْ تَكَدْ تَسْتَبينُ
يَسْتَطيرُ الأبْصارَ كَالقَبَسَ الْمُشْ ... عَلِ ما تَسْتَقِرُّ فيهِ العُيونُ
وكَأنَّ الفِرِنْدَ والرَّوْنَقَ الجا ... رِيَ في صَفْحَتَيْهِ ماءٌ مَعينُ
وكأنَّ المَنونَ نيطَتْ إلَيْه ... فَهْوَ مِنْ كُلِّ جانِبَيْهِ مَنونُ
ما يُبالي مَنِ انْتَضاهُ لِضَرْبٍ ... أشِمالٌ سَطَتْ بهِ أمْ يَمينُ
قال أبو هلال العسكري: وقد أُخِذ عليه في هذه الأبيات تشبيهُه السيفَ بالشمس ثم بالقَبَس، لأنّه قد حطّه درجاتٍ. . .
ولمناسبة عَمْرِو بنِ مَعْدِيكرب وصَمْصامتِه يُروى أنّ عُمرَ بن الخطاب بعث إلى عمرٍو أن يبعثَ إليه بسَيْفه الصَّمصامةِ هذا، فبعثَ إليه به، فلمّا ضرب به وجدَه دون ما بلغَه عنه، فكتب إليه في ذلك، فأجابه يقول: إنما بَعَثْتُ إلى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبْعَثْ له بالسَّاعِدِ الذي يَضْرِبُ به. وسأله عمرُ يوماً عن السلاح فقال: ما تقول في الرُّمح؟ قال: أخوك ورُبَّما خانك فانْقَصف؛ قال: فما تقولُ في التُّرس؟ قال: هو المِجَنُّ وعليه تدور الدّوائر، قال: فالنَّبل؟ قال: منايا تُخْطِئ وتُصيب، قال: فما تقول في الدِّرع؟ قال: مَثْقَلَةٌ للرّاجِلِ مَشْغَلَةٌ للرّاكِبِ، وإنّها لَحِصنٌ حَصين؛ قال: فما تقول في السيف؟ قال: هُنالك قارَعَتْكَ أمُّك عن الثُّكل؛ قال: بل أمُّك! قال: بل أمُّكَ يا أميرَ المؤمنين! فَعَلاه أمير المؤمنين بالدِّرّة، وقيل: بلْ قال له - لمّا قال عمر بل أمُّك - قال: أمِّي يا أميرَ المؤمنين الحُمَّى أضْرَعَتْني لك أراد: أنّ الإسلامَ قيّدني، ولَوْ كنتُ في الجاهليّةِ لَمْ تُكلِّمني بهذا الكلام، وهو مثلٌ تضربُه العربُ إذا اضْطُرّت للخضوع.
ومثلُ ذلك قولُ الأغرِّ النهشلي لابنه لمّا بعثَه لحضور ما وقع بينَ قَومه فقال: يا بُنَيَّ، كُنْ
يَداً لأصْحابِك على مَنْ قاتَلَهم، وإيّاكَ والسيفَ فإنّه ظِلُّ الموتِ، واتَّقِ الرُّمْحَ فإنّه رِشاءُ المَنيَّة، ولا تَقْرَبِ السِّهامَ فإنَّها رُسُلٌ تَعْصي وتُطيع، قال: فبِمَ أقاتل؟ قال: بِما قال الشاعر:
جَلاميدُ أمْلاءُ الأكُفِّ كأنَّها ... رُؤوس رِجالٍ حُلِّقَتْ في المَواسِمِ
فعَليكَ بِها وألْصِقْها بالأعْقابِ والسُّوق. قولُه: جلاميدُ أملاءُ الأكُفِّ. . . البيت هو أحدُ أبياتٍ أوردها المُبرِّد وهي:
تُغطِّي نُمَيْرٌ بِالعَمائِمِ لُؤْمَها ... وكَيْفَ يُغطِّي اللِّؤْمَ طَيُّ العَمائِمِ
فإنْ تَضْرِبونا بالسِّياطِ فإنَّنا ... ضَرَبْناكُمُ بالمُرْهَفاتِ الصَّوارِمِ
وإنْ تَحْلِقوا مِنّا الرُّؤوسَ فإنّنا ... حَلَقْنا رُؤوساً باللَّها والغَلاصِمِ
وإنْ تَمْنَعوا مِنَّا السِّلاحَ فَعِنْدَنا ... سِلاحٌ لَنا لا يُشْترى بالدِّراهِمِ
جَلاميدُ أمْلاءُ الأكُفِّ كأنَّها ... رُؤوس رِجالٍ حُلِّقَتْ في المَواسِمِ
قولُه: حلقنا رؤوساً: يُريدُ أزلْناها بالسُّيوف، واللَّها بفتح اللام جمع لَهاة وهي لَحْمة مُشرفة على عَكَدَةِ اللّسان، والغَلاصم جمع الغَلصمة وهي لَحْمةٌ بينَ الرأسِ والعُنق، والجَلاميد جمع جلمود وهو الحَجَر تأخذُه بيدك وهو بيانٌ لقوله سِلاحٌ لنا لا يُشترى بالدراهم
وقال المعرِّي:
كأنَّ أراقِماً نَفَثَتْ سِماماً ... عَلَيْهِ فعادَ مُبْيَضّاً نَحيلا
ومَنْ تَعْلَقْ بِه حُمَةُ الأفاعي ... يَعِشْ - إنْ فاتَه أجَلٌ - عَليلا
كأنَّ فِرِنْدَهُ واليَوْمُ حَمْتٌ ... أفاضَ بِصَفْحِه سَجْلاً سَجيلا
تَردَّد ماؤُه عُلْواً وسُفْلاً ... وهَمَّ فَما تَمَكَّنَ أنْ يَسيلا
يَكادُ سَناهُ يُحْرِقُ مَنْ فَراهُ ... ويُغْرِقُ مَنْ نَجا مِنْه كُلولا
كأنّ أراقماً. . . البيت يقول: كأنَّ الحيّاتِ نفخت السُّمومَ على هذا السيفِ فصارَ أبيضَ ناحلاً، وذلك أن السُّمَّ موصوفٌ بالبياضِ، ومَنْ نَكَزَتْه الحيّةُ ونفثت فيه سُمَّها نَحَلَ جِسْمُه، فجَعَلَ البياضَ في السَّيْفِ لَوْناً للسُّمِّ والنَّحافةَ فِعْلَه، وقوله: ومَنْ تَعْلَقْ به: البيت لمّا وصفَ السيف بالنُّحولِ لمّا نفثت الأراقمُ عليه سِمامَها حقَّقَ وجْهَ نُحوله، وهو أنّ مَنْ خالطَه سُمُّ الأفاعي هلك في غالبِ الأمر، وإن فاتَه الهلاكُ عاش عليلاً، والعليل نحيلُ الجسم لا محالة، وقوله: كأنَّ فِرنده. . . البيت فالفِرِنْد: جوهرُ السيف وماؤه، ويومٌ حَمْتٌ: شديد الحر،
والسَّجْل الدَّلْو، إذا كان فيها ماءٌ، ولا يُقال لها وهي فارغة: سَجْلٌ ولا ذَنوب، والسَّجيل: الضخم العظيم، يصف بياضَ السيف وبريقَه، أي كأنَّ جوهرَ السيف وقد صُبَّ بوجْهِه دَلْوٌ من الماء في يومٍ شديد الحرّ، فهو أبيضُ بَرّاق كأنّه ماء، وإنّما ذكر شِدّة الحرّ لأنّه إذا كان اليومُ شديدَ الحر كانت الحاجة إلى الماء أشدَّ، أو لأن الماء مع إشراق الشمس أشدُّ بريقاً ولمعاناً. وقوله: تردَّد ماؤه. . . البيت لمّا شبّه فرند السيف بالماء وصفه بأنّ الماء كأنّه يتردَّد فيه من أعلاه إلى أسفله ومن أسفله إلى أعلاه، ويَهُمُّ الماء أنْ يسيلَ من صفحته فلا يتمكّن من السَّيلان، لأنه محصورٌ في أجزائه، وقوله: يكاد سَناه. . . . البيت فالسَّنا: الضَّوء، وفَراه: قَطَعه، وكلَّ السيفُ والرُّمْحُ يَكِلُّ كُلولاً: إذا نَبا عن العمل، يقول: إنّ هذا السيفَ جمعَ بين النار والماء فهو يُحْرِقُ مَنْ قَطَعه ويُغْرِقُ بمائِه مَنْ كَلَّ السيفُ عنه فَنجا مِنه.
وقال إسحاق بن خلف:
ألْقى بِجانِبِ خَصْرِه ... أمْضى مِنَ الأجَلِ المُتاحِ
وكأنَّما ذَرُّ الهَبا ... ءِ عَلَيْهِ أنْفاسُ الرِّياحِ
وقال النابغة:
تُطيرُ فِضاضاً بَيْنَهُمْ كلّ قَوْنَسٍ ... ويَتْبَعُها مِنْهُمْ فَراشُ الحَواجِبِ
تَقُدُّ السَّلوقيَّ المُضاعَفَ نَسْجُه ... وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
فَضَضْتُ الشَّيْءَ أفضُّه فَضّاً فهو مَفْضوضٌ وفَضيضٌ: كَسَرْتُه وفَرَّقْتُه، وفُضاضه وفِضاضه: ما تكسَّر مِنْه وتفرّق، والقونس: مُقَدَّم الرأس، وقونَسُ البَيْضةِ من السّلاح: أعْلاها، والفَراش: عَظْمُ الحاجب، أو قشرةٌ تكونُ على العظم دونَ اللّحم، ويقال: ضَرَبَه فأطارَ فَراشَ رأسِه وذلك إذا طارت العِظامُ رِقاقاً من رأسِه، والسَّلوقيُّ: الدِّرْع المنسوبة إلى سَلوق، وهي قريةٌ باليمن تعرف بِسَلَقْيَة وإليها تُنْسَبُ أيضاً الكِلابُ السَّلوقيّة، والصُّفّاحُ جمع صُفّاحة وهي: كلُّ عريضٍ من الحجارة ونحوها، والحُباحِب: الشَّررُ الذي يسقط من الزِّناد يقول في البيت الثاني: إنّ هذه السيوف تَقُدُّ - تقطع - الدِّرْعَ التي ضُوعِفَ نسجُها والفارس والفرس وتصل إلى الأرْضِ فتَقْدحُ النارَ بالصُّفَّاح.
وقال البحتري يصِف الدِّرْعَ:
يَمْشونَ في زَرَدٍ كأنَّ مُتونَها ... في كُلِّ مُعْتَرَكٍ مُتونُ نِهاءِ
بَيْضٌ تَسيلُ على الكُماةِ فُضولُها ... سَيْلَ السَّرابِ بِقَفْرَةٍ بَيْداءِ
وإذا الأسِنَّةُ خالَطَتْها خِلْتَها ... فيها خَيالُ كَواكِبٍ في ماءِ
وقال عبد الله بن المعتز:
كَمْ بَطَلٍ بارَزَني في الوَغى ... علَيْهِ دِرْعٌ خِلْتُها تَطَّرِدْ
كأنَّها ماءٌ عليهِ جَرى ... حتَّى إذا ما غابَ فيهِ جَمَدْ
وقال المتنبي:
تَرُدُّ عَنْهُ قَنا الفُرْسانِ سابِغَةٌ ... صَوْبُ الأسِنَّةِ في أثْنائِها دِيَمُ
تَخُطُّ فيها العَوالي لَيْسَ تَنْفُذُها ... كأنَّ كُلَّ سِنانٍ فوقَها قَلَمُ
يقول في البيت الأول: تمنع الرِّماحَ مِنَ النفوذِ في عَدوِّ الممدوح دِرْعٌ سابغة قد تلطّخت بالدماء التي تسيل من الأسِنّةِ عليها، أو أنّ وقْعَ الأسِنّةِ في هذه الدِّرْعِ كديمةِ المَطر تَتابُعاً. ويقول في البيت الثاني: إنَّ الرِّماحَ تؤثِّر في دِرْعه، أي تَجْرحُها، ولا تنفذها إلى جِسْمِه، حتّى كأنَّ أسِنَّتَها أقلامٌ تَخُطُّ في القِرْطاس ولا تَخْرُقه. وقال المعري:
إذا طُوِيَتْ فالقَعْبُ يَجْمَعُ شَمْلَها ... وإنْ نُثِلَتْ سالَتْ مَسيلَ ثِمادِ
وما هي إلا رَوْضةٌ سَدِكٌ بِها ... ذُبابُ حُسامٍ في السَّوابِغِ شادِ
على أنَّها أمُّ الوَغى وابْنَةُ اللَّظى ... وأخْتُ الظُّبَى في كُلِّ يَوْمِ جِلادِ
القعْبُ: القَدَحُ الصغير، ونَثَلَ الدِّرْعَ ينثلها: إذا ألْقاها على نفسِه وصبَّها عليه، والثِّمادُ جمعُ ثمد وهو: الماءُ القليل. يقول: إذا طُوِيَتْ صَغُرَ حجمُها بالطّي حتى يَسعَها القعب. وإنْ لُبست سالت على البَدنِ كالماء. وقوله: وما هي إلا روضةٌ. . . . البيت، فسَدك بالشيء: لَزِمَه، وشدا يشدو فهو شادٍ: إذا رفع صوتَه بالغناء، شبَّه هذه الدِّرْعَ بالرّوضة، والذُّبابُ يجتمع في الرّياض ويُصوِّت فيها، يقول: إنّ هذه الدرعَ روضةٌ قد أولِعَ بها ذُبابُ السيف، وهو: حَدّه الذي يتغنّى في الدّرع، أي أنّها دِرْعٌ لا تزال على بطلٍ مُحاربٍ تَرِدُها سيوفُ الأقرانِ وتقارعُها فيُسْمع صوتُ وقْعِها. وقوله: على أنّها. . . البيت فالجِلاد: الضِّرابُ بالسّيوف، وجعل الدّرْعَ أمَّ الوغى - أي الحرب - إذْ أنّها تجري مَجْرى الأصل والملجأ الذي يُلْجأ إليه، وجعلها ابنةَ اللَّظى - أي النار - لأنّها إنّما عُمِلَتْ بالنار، وأختُ الظُّبَى -
جَمْعُ ظُبَةٍ وهي حدُّ السيف - إذْ لا تزال تَرِدُها ظُباتُ السّيوفِ وتقارنُها ولا تؤثّر فيها، وصَفها بهذه الأسماءِ المُنْبِئَةِ عن القرابات مُريداً بِها ما يُناسبُها مِنَ المعنى.
ولأبي العلاء المعرّي في الدُّروع مقطوعاتٌ كثيرة، لقد افْتَنَّ فيها افْتِناناً، وأبْدعَ ما شاءَتْ عبقريَّتُه تَراها في سَقطِ الزّند.
مصادر و المراجع :
١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر
عدد الأجزاء: 2
20 نوفمبر 2024
تعليقات (0)