المنشورات

الفن الصحفي والمجتمع الحديث:

وإذا ألقينا نظرة فاحصة على المجتمع الحديث لوجدنا أنه يعاني من مرض خطير يمكن تسميته بالانقسام أو الانفصام الاجتماعي، ولا شك أن هذا الانفصام ليس إلا نتيجة محتومة لأنظمة التخصص وتقسيم العمل التي تتطلبها وسائل الإنتاج الحديثة وأساليب الإدارة العامة في الحكومات. فالمجتمع يعاني من التضخم الكبير والتخصص الشديد بحيث أصبحت أقسام المجتمع الواحد منعزلة عن بعضها البعض في الميادين الاقتصادية والحكومية وغيرها.
وعندما تنعزل الوحدات المكونة للمجتمع الواحد، وتصبح غامضة عسيرة الفهم يعاني المجتمع من الانفصام الذي أشرنا إليه، وتكون وظيفة الصحافة هي إعادة التفاهم إلى هذا المجتمع. على أن التكامل الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا على أسس من الإيمان بأهمية الرأي العام، وحقه في الإطلاع على الأخبار والمعلومات أو بمعنى آخر الاعتراف بضرورة التفسير والشرح من أجل إحراز التفاهم.
فالفرد العادي في المجتمع الحديث المتخصص لا يستطيع أن يعيش وفقا لمبدأ الاكتفاء الذاتي الذي كان سمة المجتمع القديم. فكل سلعة يحتاجها مهما صغرت كشفرات الحلاقة ومعجون الأسنان تقوم بإنتاجها شركات ضخمة بعضها في مصر وبعضها في الخارج. وكذلك طرق المواصلات داخل المدينة وخارجها، ووسائل المخابرة بالبريد والتليفون والتلغراف قد أصبحت وظائف معقدة يصعب فهمها أو تقديمها. فما بالك بمنجزات العلم الحديثة كالطاقة الذرية، وحرب الميكروبات، وغرف الفضاء، والهبوط على القمر، والاتصال بالكواكب الأخرى!
إن الإنسان وحده لا يستطيع أن يفهم سائر المؤسسات والشركات التي تزوده بالمنتجات والخدمات. والعجيب أنه كلما ارتفعت الحضارة، وزاد التخصص، أصبح مصير الفرد معلقا في أيدي جهات شتى ومؤسسات عديدة، في مجالات الاقتصاد والنقابات والهيئات والسياسية وغيرها. فنحن نعيش في عصر العلم والخبراء والمعلومات المعقدة، وكذلك يمتاز هذا العصر بوسائل الاتصال الحديثة، والاعتراف بحساسية الرأي العام وأهميته. ولما كانت حياة الإفراد متأثرة بما يجري في كافة الهيئات والمؤسسات المتعددة، فإن طابع الحضارة الحديثة يتطلب من الصحف أن تقوم بتفسير هذه المدنية المعقدة.
ونستطيع القول بأن أجهزة الإعلام قد أخذت هي الأخرى في التخصص وفقا لطبيعتها، فلم تعد الصحافة هي أسرع الوسائل الإعلامية في نقل الأخبار، بل إن الإذاعة قد تفوقت عليها تفوقا عظيما. غير أن النشرات الإخبارية والإذاعية لا تستطيع أن تعطي أخبارا كاملة مفسرة، وإنما هي تعطي مجرد عناوين سريعة، ولمحات خاطفة، تاركة للصحافة مهمة الشرح والتفسير والتفصيل. ونحن لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن المهمة الرئيسية للفن الصحفي الحديث، بعد تطور الإذاعة، أصبحت الشرح والتعليق والتفسير. وقد رأينا أن مجلات متخصصة في تفسير الأخبار، وبيان أبعادها المختلفة قد أخذت تظهر في جميع أنحاء العالم نخص منها بالذكر مجلات تايم ونيوزويك في أمريكا ودير شبيجل في ألمانيا وباري ماتش في فرنسا، بالإضافة إلى المجلات المصورة مثل لايف ولوك وغيرهما.
وهكذا تطورت مهمة الفن الصحفي الحقيقي، وأصبحت تدور حول التفسير وإلقاء الضوء على الأخبار، وبيان آثار الأحداث على حياة الناس. ولذلك ظهر فن التحقيق الصحفي، الذي يعتبر بحق من أهم معالم الصحافة الحديثة لأنه يعطي للقراء معلومات حية تساعد على فهم الأخبار، كما تستخدم الصور والعناوين والرسوم، وكافة فنون التسجيل الطباعي من أجل التبسيط والشرح والتفسير. 

وعملية التبسيط كثيرا ما تكون أصعب من الخلق والابتكار الفني ذاته.
ولذلك فإنه لا يقوم بمهمة التبسيط سوى علماء من نوع جديد، يتقنون الفن الصحفي الأصيل، ويهضمون المسائل العويصة، ويحلون غوائصها بحيث يستطيعون أن يتحدثوا عن أعظم الحقائق بأبسط الألفاظ. وعلى العكس من ذلك ترى أن من لم يهضم المادة يسرف في استخدام المصطلحات الفنية، ويعجز عن الإبانة، بل قد يبلغ به الأمر أن يقول التوافه والبديهيات في أعقد الألفاظ وأشق المصطلحات، وأصعب العبارات. وكل ذلك فضلا عن أن عملية الهضم نفسها لا تكفي ذلك؛ لأن التبسيط يتعرض حتى عند الهاضمين لخطرين كبيرين، أولهما الإيجاز الغامض وثانيهما الإطناب المخل.
فبعد عميلة الهضم وإتمام الفهم، يتعين على الكاتب الصحفي أن يخضع عصارة عقله للألفاظ السهلة المبينة، وهذه العملية شاقة تتطلب الاهتمام بالمضمون من جهة، وإسكان المعنى في اللفظ المناسب من جهة أخرى. بل يتطلب الأمر مرحلة ثالثة هي الإقناع. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید