المنشورات
وظيفة الإمتاع والتسلية:
أما الوظيفة الرابعة من وظائف الفن الصحفي فهي الإمتاع أو التسلية، وهي وظيفة قديمة قدم البشرية نفسها، عندما كان المغني والمنشد والراوية يقوم بالتسرية عن الناس، وإمتاعهم برواية القريب والطريف والعجيب من القصص الواقعية والخيالية على السواء. وقد ورثت الصحافة هذه المهمة الخطيرة التي يرى ماكدوجال1 أنها تخفف العبء عن النفوس والعقول، وتجعل الحياة محتملة رغم ما فيها من متاعب، وهكذا تصبح التسلية ذات أثر نفسي حميد.
ويذهب ستيفنسون2 إلى أن الإمتاع والتسلية هما هدفان أساسيان للإعلام بوجه عام. ويرى أن ألوان المتعة القصصية قد أثرت على الجوانب الأخبارية والإعلامية نفسها، حتى أصبحت الأحداث السياسية تقدم بطريقة درامية، كما تطورت أساليب الكتابة الصحفية لتروي أخبار الجريمة والسياسة، وأنباء الفضاء والحرب والسلام بطريقة إنسانية تقرب من القصص الفنية أو الأدب.
ويلاحظ سيفنسون أن الإيقاع الإعلامي يسير على أساس فترات من الأخبار تمثل التوتر، يعقبها فترات من الترفيه، تمثل الهدوء والاسترخاء. فإذا نظرنا إلى البرنامج الإذاعي الناجح لوجدنا أنه يحتوي على الأخبار السياسية والتعليقات حول الأحداث، بما يجري من حروب ومعاهدات وكوارث، ثم تأتي بعد ذلك فترات الموسيقى وبرامج التمثيل والغناء. وفي الصحافة الحديثة أيضا نجد إلى جانب الأخبار والمقالات والأحاديث، رسوما شيقة، وصورا جذابة، وكاريكاتير ونكتا، وقصصا، وتمثيليات. وهكذا يبدد الإمتاع الترفيهي كل آثار الضعظ الأخباري، والتوتر العصبي.
غير أن وظيفة الترفيه والإمتاع يمكن أن تتجاوز حدودها ويصبح ضررها أكبر من نفعها. ومن هنا جاءت نصيحة الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون، الذي طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة، حرصا على نفوس الشباب من المبالغة والتهويل والانحراف. ونذكر في القرآن الكريم الآية الكريمة: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . إلى آخر الآية الكريمة التي تستثني من الشعراء الذين آمنوا؛ لأن وظيفة الشاعر قديما تشبه وظيفة الإعلامي الحديث، وخاصة من حيث جوانب الإمتاع.
غير أن الفيلسوف اليوناني أرسطو يرى أن التنفيس عن المتاعب والآلام هو الهدف الرئيسي من الاستمتاع الفني. والترفيه عنده عملية تطهير للنفس، فعندما يشاهد المتفرج مسرحية مثلا، فإنه يعاني ما يعانيه البطل من آمال وآلام. وفي النهاية يفرج المشاهد كربته، وينفس عن آلامه ومتاعبه، فيشعر بالراحة النفسية، ويخرج من المسرح وقد أزاح عن كاهله أعباء الانفعالات المتراكمة والمشاعر المكبوتة. ومن هنا كان لفنون الترفيه -ومنها الفن الصحفي- أثر بالغ في شفاء الجماهير من عقدها النفسية.
ولعل هذا يذكرنا بنظرية سيجموند فرويد المشهورة حول التحليل النفسي. وتقوم هذه النظرية على أساس النزعات التي صادفها الكبت، والتي تجد فرصة للظهور بعد أن ظلت مكبوتة في اللاشعور، ربما منذ الطفولة الباكرة. ويحاول الذين يعانون من تراكم هذه الرغبات المكبوتة، والعقد المختزنة في اللاشعور، أن ينفسوا عنها بالطرق الوهمية. فمن خلال الفن والترفيه، يمكن للإنسان أن يتقمص الشخصيات، ويمر بالعديد من التجارب والخبرات، مما يؤدي إلى الشعور بالراحة النفسية. ولا شك أن الفن الصحفي يقدم من العناصر الترفيهية ما يرضي الجمهور، ويسري عنه، ويخفف من متاعبه. فالتخيل وتقمص الشخصية يؤديان إلى إطلاق النزعات المكبوتة -على حد قول فرويد. ومن الواضح أن نظرية أرسطو في التطهير النفسي عن طريق الدراما تقترب كثيرا من نظرية فرويد عن التنفيس، وتخفيف التوتر، وإطلاق الرغبات المكبوتة، عن طريق تقمص الشخصيات الوهمية، والتسرية عن النفس.
ويذهب النقاد إلى أن وظيفة الترفيه قد تفسد الصحافة؛ لأنها تصرف الجماهير عن الأحداث الجادة، وتخلق جوا هروبيا يصيب النفس بالمرض. وقد تلجأ الحكومات الدكتاتورية إلى مثل هذه الصحافة الترفيهية لصرف أنظار الجماهير عن الأحداث الواقعية والمشكلات الحقيقية، وقتل روح النقد عن الناس. ويذهب هؤلاء إلى أن قصص ألف ليلة وليلة، مثلا، قد صدرت لمثل هذا الغرض. ويؤكد هؤلاء النقاد أن مهمة الترفيه قد تترك للسينما والتليفزيون، بل حتى للإذاعة نفسها، أما الصحابة فينبغي أن تركز جهودها في مهام أخرى كالأخبار والتعليق والتوجيه والنقد.
والحقيقة أن الصحيفة كوسيلة إعلام ينبغي أن تتصف بالتوازن أو الاتزان، فلا تسرف في الجد إلى حد العبوس، ولا تتطرف في الترفيه إلى حد العبث. وإنما ينبغي أن تسد الحاجات الإنسانية بما فيها من جوانب جادة وأخرى ضاحكة. وقديما قال الأديب الفرنسي رابيليه: إن الضحك من أهم السمات المميزة للإنسان، كما أن المرح صفة هامة من صفاته، لتجديد نشاطه، واستمرار حيويته. غير أن الترفيه لا ينبغي أن ينحط إلى مستوى التهريج المسف وإلا كانت آثاره خطيرة على نفسية الشعب وقواه العقلية. ونحن نذهب إلى أن الترفيه المنحط يمكن أن يؤدي إلى تمزيق وحدة الشعب، والقضاء على تماسكه، وتدمير روحه المعنوية. وليس أدل على ذلك من أن الجيوش تتعرض إلى هجوم صحفي يتمثل في مجلات حقيرة مليئة بالصور العارية، والنكب الجنسية، والأخبار التافهة السخيفة، وذلك إمعانا في إفساد النفوس، وتسميم العقول، وتمزيق الصفوف، ويحرص الاستعمار دائما على إشاعة الفوضى والانحلال والفساد بترويج الصحف الصفراء، ذات المضمون المريض، لتخدير الشعب، وصرفه عن الواقع الأليم الذي يتردى فيه. وهكذا يتضح لنا أن وظيفة الترفيه سلاح ذو حدين، وقوة لا بد أن يحسن استخدامها.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)