المنشورات

نظرية التحليل الوظيفي للفن الصحفي:

وقد رأينا أن عملية التنشئة الاجتماعية تساعد على استمرار التراث الثقافي، ونقل القيم والخبرات المشتركة. ولا شك أن الصحافة عامل هام في عملية التطبيع إلى جانب الأسرة والمدرسة والدين، ولكن كثيرا ما ينجم عن نشر الثقافة من العاصمة قضاء على الثقافات المحلية أو الأقليمية. ومن هنا جاءت ضرورة إنشاء الصحافة الأقليمية وغيرها من وسائل الإعلام المحلية كالإذاعات ومحطات التليفزيون الإقليمية والمحلية.
غير أن العناصر الدرامية في الصحافة والإعلام قد تؤكد على العلاقات الجنسية والعنف بطريقة ضارة بالشباب، مما يشجع على السلوك المنحرف. كما أن الإعلان الرديء في المجتمعات الرأسمالية التنافسية قد يخلق روحا فظة غليظة وذوقا عاما رديئا. بل إن العالم الفنان هربرت ريد1، يذهب في كتابه "معنى الفن" إلى أن التنشئة الاجتماعية السيئة قد تكون سببا في خلق الشخصيات المريضة التي تستمتع بالقسوة، وتتلذذ بسفك الدماء. ويرى أن مثل هذه الظروف هي التي تخلق جو القرن العشرين المفعم بالكآبة والسوداوية وحب الانتقام.
فإذا كانت التنشئة الاجتماعية تؤدي إلى اكتساب ثقافة الجماعة وأساليب سلوكها. وزيادة التآلف الاجتماعي بين أفرادها، وتوسيع قاعدة الأساليب الشائعة والخبرة فيما بينهم، مما يقلل من الاتجاهات الانقسامية والتمزقية، ويشيع القيم السائدة، والاندماج الاجتماعي، فإنه في الوقت نفسه قد يساعد على خلق المجتمع الجماهيري، ويقلل من الخصائص الفردية. ونجد في كتابات علماء الإعلام المتخصصين في الدول الحديثة شكوى مريرة من المجتمع الجماهيري الضخم الذي يصبح فيه الفرد متعرضا للتشكل عن طريق أجهزة الإعلام وأدوات التأثير في الجماهير وخاصة الإعلان والدعاية والعلاقات العامة.
وإذا أتينا إلى وظيفة الترفيه، وجدنا أن الإمتاع والتسلية من الوظائف التي تعمل على إراحة الجماهير نفسيا، وإعطاء فرصة للانتعاش بعد العمل الطويل، ولكن الترفيه قد يتردى إلى الهبوط بمستوى الأذواق، كما أنه قد يخلق الفرص لظهور الاتجاهات الهروبية في القصص الخيالية، والدراما الرومانسية، والمعالجات البعيدة عن الواقع ومشاكله. ولا شك أن في ذلك إضعافا للمستويات الجمالية والثقافية الرفيعة، كما أنه قد يعطي للسلطة الحاكمة فرصة لصرف أنظار الشعب عن مشكلاته وواقعه.
ويمكن تلخيص نظرية التحليل الوظيفي للفن الصحفي في النقاط الأربع التالية: فبالنسبة لوظيفة الأخبار نجد أنها تعمل على تحذير المجتمع من الأخطار الطبيعية مثل الهجوم أو الحرب أو الوباء، وتنقل معلومات نفعيه كالأخبار الاقتصادية والجوية والتموينية. ولكنها تهدد المجتمع بمقارنات بمجتمعات أخرى أفضل مما يخلق ثورة التطلعات. ومن ناحية أخرى قد تؤدي الأخبار إلى ظهور حالة من الذعر أو الخوف. وتعطي الأخبار للفرد معلومات مفيدة، وتضفي عليه هيبة واحتراما، وتمكنه من ممارسة قيادة الرأي، ولكنها قد تسبب في زيادة الإحساس بالفقر والحرمان وتخلق روحا من اللامبالاة والتخدر. 

وللأخبار فائدة محققة للطبقة الحاكمة لأنها تعطيه معلومات مفيدة لزيادة نفوذها وتقويته، والكشف عن المنحرفين، والتأثر على الرأي العام عن طريق المراقبة والسيطرة واختفاء الشرعية على السلطة، ولكنها قد تهدد الطبقة الحاكمة عندما تتكشف نواحي الضعف، وتظهر الأحوال الحقيقية، التي قد يسهم الأعداء في نشرها. وإذا كانت الأخبار عاملا مساعدا لنشر الثقافة العامة، فإنها قد تتيح الفرصة لغزو ثقافي.
ولا شك أن وظيفة التفسير والتوجيه تساعد على التعبئة والتوعية، وتقف في مواجهة التهديدات التي قد تعصف بالاستقرار الجماعي، وبذلك تمنع انتشار الذعر، ولكنها قد تؤدي إلى الخضوع الاجتماعي، وتعرقل التغيير، وتعطل النقد. وتعمل هذه الوظيفة على تقليل التوتر بين الأفراد وتبسيط المعلومات واستيعابها، ولكنها قد تؤدي إلى زيادة السلبية، وضعف القوى النقدية لدى الفرد. ولا شك أن التفسير والتوجيه يساعدان الجماعات الفرعية الحاكمة مثلا على الاحتفاظ بالسلطة، ولكنها في الوقت نفسه تحملها مسئوليات ضخمة. أما بالنسبة للثقافة فإنها تعرقل الغزو الثقافي، وتحقق المحافظة على التراث القومي، ولكن ذلك ينطوي أيضا على خطر التقوقع، وعرقلة النمو الثقافي، والابتعاد عن كل ما قد يؤدي إلى إثراء الثقافة عن طريق الانفتاح على الخارج.
وقد رأينا أن وظيفة الترفيه ذات أثر نفسي حميد للتنفيس عن المتاعب والآلام، ولكنها قد تجعل المجتمع غارقا في الأوهام وبعيدا عن الواقع، مما يزيد السلبية، ويتيح الفرصة لظهور الاتجاهات الهروبية. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه الأوضاع ربما توفر وسيلة للسلطة الحاكمة للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية. فضلا عن أن الترفيه قد يهبط إلى مستويات ضارة بالذوق العام.
ولا شك أن مهمة التنشئة الاجتماعية لها آثارها الحميدة لتكامل المجتمع ووضوح أهدافه، واندماج فئاته وتنشئة شبابه وخلق الوحدة الفكرية والوجدانية. ولكنها قد تؤدي إلى خلق المجتمع الجماهيري الذي يصبح الفرد فيه مجرد وحدة خاضعة لأسلوب حياة نمطي عام. حقيقة أن التنشئة الاجتماعية تعمل على تقليل الاتجاهات الانحرافية، وتمنع التمزق، وتصون القيم، ولكنها في الوقت نفسه قد تمكن السلطة الحاكمة من البقاء في السلطة والاعتماد على روح المحافظة دون أي تغيير، وذلك يقضي على ضرورة النمو، إن التماثل والمحافظة على القيم من الأمور المرغوب فيها، ولكن التغيير والنمو من سمات الحيوية والتطور لبلوغ الآفاق الجديدة في الحياة. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید