المنشورات
من الخبر الجاد إلى الخبر الخفيف:
وقد كانت الأخبار السياسية والاقتصادية هي الطابع الغالب على صحافتنا المصرية منذ صدورها سنة 1828. وحتى الصحافة الشعبية نفسها كانت تنظر إلى الخبر على أنه موضوع سياسي وعلمي تجاري، كما يتضح من نص طلب الترخيص الذي تقدم به سليم تقلا لشرح قصده من إصدار صحيفة الأهرام؛ إذ يقول: "والإفادة من ذلك أن الجريدة الملتمس إنشاؤها في الإسكندرية تحتوي على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية وكذلك طبع الكتب".
والحقيقة أن الأخبار كانت تدور في مجملها حول الثناء على ولي النعم، وبيان نشاط الحكومة في ترقية الأحوال، وكذلك فيما يحدث في سائر أنحاء العالم، غير أننا نلمح أحيانا بعض الأخبار الطريفة في صحيفة الوقائع المصرية، وهي أخبار مترجمة عن الصحف الأجنبية، وهي في الغالب فرنسية. ويبدو أن رفاعة رافع الطهطاوي -محرر الوقائع الأول- قد تعلم في فرنسا شيئا عن المعالجة الإنسانية للأخبار، والابتعاد عن الموضوعات الجافة. ومن الواضح أن الصحفيين كانوا يؤثرون نشر الأخبار الأجنبية؛ لأن نشر الأخبار المحلية كان يعرضهم لضيق الحكام وتبرمهم، وربما إثارة سخطهم وتعرضهم للعقوبات الأليمة.
ومن الغريب أن تطالعنا جريدة الأهرام على صفحتها الأولى بعددها الصادر في 10 إبريل سنة 1889 بمسألة فكاهية تقول فيها: "أجب يا من لك إلمام بأوليات الحساب عن عدد قيمته 45 طرح من عدد آخر قيمته 45 فكانت قيمة الباقي 15 وجنس الأعداد واحد من المطروح والمطروح فيه -كاتبه أسعد حداد". وجاء جواب هذه المسألة في العدد التالي "لقد استقبلنا حل هذه الفزورة في وقت واحد بقلم حضرة الخواجة جرجس ملك وقلم حضرة الخواجة يوسف إلياس وكلا الحلين متفقة".
وقد رأينا كيف انتقلت الصحافة الغربية من النقيض إلى النقيض. فبعد أن كانت جادة كل الجد، عابسة كل العبوس، أصبحت في مطلع القرن العشرين تافهة كل التفاهة، ماجنة كل المجون. فقد أصبحت الأخبار تافهة هشة، تطفح بأخبار الجريمة والفضيحة والعنف. ولا شك أن اهتمام الصحافة بالربح ورفع التوزيع واحتواء القراء الجدد من البسطاء والعمال قد دفع الصحافة إلى هذا التيار. بل إنها أخذت تبتدع الأخبار وتختلقها اختلاقا فإذا شحت الأخبار، أوحت الجريدة -كما فعلت الديلي ميل- إلى مغامرة الرياضيين أو السباحين بعبور بحر المانش مثلا.
وقد انزلقت صحيفة أخبار اليوم المصرية إلى هذا النوع من الصحافة فأخذت تنشر أخبار الجريمة في شيء من التفضيل المثير، وخاصة تلك الجرائم الجنسية البشعة. كما استخدمت بعض الفتيات للاتصال بكبار رجال الفكر والأدب بالتليفون ثم نشر موضوع المكالمة في العدد التالي لتكون مثيرة طريفة. كما سارت في سبيل اختلاق الأخبار المصنوعة إلى آخر الشوط فأجرت المسابقات حول اختيار البطريرك الجديد، أو مسابقة الطيران الشراعي.
وقد كتبت إحدى الصحف تقول: إذا كان المخبر الصحفي تعوزه المعلومات الأساسية التي تحيط بالأحداث سواء أكان اكتشافات أو مخترعات فكيف يستطيع هذا الصحفي أن ينقل الأخبار ويجعلها مفهومة للقراء؟ لا شك أنه يضطر إلى معالجة الموضوع بخفة، فيكتب عن الجوانب التافهة، ويهمل الجوانب الجادة.
ولكن يتفادى الصحفي التجريد وبرودة الموضوعات الصعبة والمجردة، يحاول إيجاد الصورة أو الشخصية التي تجسد آراءه ويتعامل مع الصورة الشخصية عوضا عن الفكرة، مما يسمح له بالوصول إلى عقلية الجماهير وأفهامهم العادية. وهكذا نجد أن الطابع الشخصي أوالتجسيد يغلبان على التفكير والتجريد. وهكذا تتغلب المغامرات الغرامية، والأخبار الخفيفة، وترديد النماذج المألوفة بدلا من التصدي الحقيقي الجاد لواقع الحياة.
إن الأخبار التي تدور حول شخصية علمية مثلا كأينشتين تنزلق إلى معالجة سطحية لأطواره الغريبة، فيقال إنه يكره صابون الحلاقة، ويفضل تسريحة شعر معينة، ويرتدي ملابس قديمة، وكل ذلك على حساب مؤلفاته وأفكاره، التي لا يشار إليها إلا بمجرد اللمحات البسيطة.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)