المنشورات

ذم الدهر

قال بعض الحكماء: أف للدهر ما أكدر صافيه، وأخيب راجيه، وأعدى أيامه ولياليه. وقال آخر: من له يدان بغوائل الزمان. وقيل: يسار الدهر في الأخذ أسرع من يمينه في البذل لا يعطي بهذه إلا ارتجع بتلك. وقال آخر: الدهر لا يؤمن يومه، ويخاف غده، ويرضع ثديه، وتجرح يده. وقيل: الدهر يغر ويضر، ويسوء من حيث يسر. وقال آخر: الدهر لا تتهنى فيه المواهب حتى تتخللها المصائب، ولا تصفو فيه المشارب حتى تكدرها الشوائب.
وفي فصل لابن المعتز: هذا زمان متلون الأخلاق، متداعي البنيان، موقظ الشر، منيم الخير، مطلق أعنة الظلم، حابس روح العدل، قريب الأخذ من الإعطاء، والكآبة من البهجة، والقطوب من البشر، من الثمرة، بعيد المجتنى، قابض على النفوس بكربته، منيخ على الأجسام بوحشته، لا ينطق إلا بالشكوى، ولا يسكت إلا على غصص وبلوى.
ومثله فصل للصاحب: الزمان حديد الظفر، لئيم الظّفر، حلو المورد، مر المصدر، أثره عند المرء كأثر السيف في الضريبة، والليث في الفريسة. ولشمس المعالي قابوس بن وشمكير «1» : الدهر شر كله مفصله ومجمله، إن أضحك ساعة أبكى سنة، وإن أتى بسيئة جعلها سنّة، ومن أراد منه غير هذا سيرة، أراد من الأعمى عينا بصيرة، ومن ابتغى منه الرعاية، ابتغى من الغول الهداية.
ومن أحسن ما قيل في ذمه قول ابن المعتز، وهو الإمام في ذلك:
ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا ... فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى ... فيا حسدا مني لمن سكن القبرا
وله:
يا دهر ويحك قد أكثرت فجعاتي ... شغلت أيام دهري بالمصيبات
ملأت ألحاظ عيني كلها حزنا ... فأين لهوي وأحبابي ولذاتي 

حمدا لربي وذما للزمان فما ... أقل في هذه الدنيا مسراتي
وله:
يا صاحبي إنّ الزما ... ن كما علمت وما علمته
بفني الذي جمّعته ... بيدي ويحصد ما زرعته
ويخون من صافيته ... عمدا ويعشق من مقتّه
وجهلته فحمدته ... وذممته لما عرفته
ولطالما عاتبته ... حتى على رغمي تركته
وقال عبد الله بن طاهر:
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى
فمن سرّه أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
وقال بعضهم:
ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت
فقل لجديد الدهر لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بدّ من شت.
وقال البستي:
صبرا على الدهر الخؤن وريبه ... يا نفس كيلا تبتلي بكلابه 

وإذا صبرت على إساءة ظالم ... لا تندمي فثوابه بك لا به
ومن قلائد ابن الرومي في هذا المعنى
دهر علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا، وتعلو فوقه جيفه
وأنشدني أبو بكر الطبري:
الدهر يستخدم من يخدم ... حتى يذيق الهون من يكرم
كالأرض لا تطعم من فوقها ... إلا لكي تطعم من تطعم
ولغيره:
يا محنة الدهر كفي ... إن لم تكفي فخفي
ما إن يكن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
ذهبت أطلب بختي ... فقيل لي قد توفي
نور ينال الثّريا ... وعالم متخفي
ولأبي محمد المروزي:
تقاضاك دهرك ما أسلفا ... وكدّر عيشك بعد الصفا
فلا تنكرن فإنّ الزمان ... جدير بتشتيت ما ألّفا
ولأبي جعفر الموسوي:
أيّ خير ترجو بنو الدهر في الدهر وما زال قاتلا لبنيه
من يعمّر يفجع بفقد الأخلا ... ء ومن مات فالمصيبة فيه 

وقلت «1» :
أقول والقلب مكدود باحزان ... والصبر أبعد مما بين أجفاني
حتى متى أنا يدمي العضّ أنملتي ... غيظا على زمن قد رام أزماني
فكل يوم أراني من نوائبه ... كأنني إصبع والدهر أسناني
وقلت أيضا:
كم إلى كم تبرمي بحياتي ... أتلوى تلوي الحيات
تحت عبء من الزمان ثقيل ... وخطوب قوّسن مني قناتي
ولابن لنكك البصري [مجزوء الرمل] :
يا زمانا ألبس الأح- ... رار ذلا ومهانه
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف أرجو منك خيرا ... والعلا فيك مهانه
أجنون ما أراه ... منك يبدو أم مجانه «2»
ولقابوس بن وشمكير [البسيط] :
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
ففي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر 

أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر «1»
وقال آخر:
يا دهر ويحك ماذا الغلط ... وضيع علا وشريف هبط
حمار يرتع في روضة ... وطرف بلا علف يرتبط 










مصادر و المراجع :

١-اللطائف والظرائف

المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)

الناشر: دار المناهل، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید