المنشورات
مدح الضياع
حدّث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» «1» وكان عروة يقول: ازرع أما لك أرض؟ أما سمعت قول القائل:
أقول لعبد الله لما لقيته ... يسير بأعلى الرقمتين مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب وترزقا
وقال بعض السلف: من أراد أن يتوسع في الرزق فليقتن مع تجارة له ضيعة، ألا ترى أن الله تعالى قد قرن بينهما في كتابه فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
»
. وقيل لسفيان بن عيينة: ما بال الرجل يبيع الضيعة فلا يبارك له في ثمنها. فقال: أما سمعتم قوله تعالى في وصف الأرض: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها
«3» . فكيف يبارك في ثمن يزيل عن ملكه شيئا قد بارك الله فيه. وفي الخبر: «من باع عقارا ولم يصرف ثمنه في مثله كان كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف» «1» .
وقال إسماعيل بن صبيح «2» لصديق له: اتخذ لك ضيعة تعينك إذا جاءتك الاخوان. وقيل:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر
وفي الكتاب المبهج: فلاح المعيشة في الفلاحة ولا ضيعة على من له ضيعة، وفيه: قص جناح المال الطيار باعتقال العقار، وفيه:
ليس بحازم من باع العقار، وابتاع العقار، وشرى الماء، واشترى الإماء. وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن قامت القيامة وفي يدك فسيلة فاغرسها» «3» .
وروى الجاحظ باسناد له عن عبد الله بن سلام: «لا تدع غرس يدك ولو سمعت أن الدجال خرج» «4» ، وقيل لعثمان بن عفان رضي الله عنه: أتغرس بعد الكبر؟ قال: لأن توافيني الساعة وأنا من المصلحين، خير من أن توافيني وأنا من المفسدين؛ وقيل لأبي الدرداء وهو يغرس جرزة: أتغرس بعد الكبر وأنت شيخ وهي لا تطعم إلا بعد عشرين سنة أو ثلاثين؟ فقال: وما عليّ أن يكون الأجر لي والهناء لغيري؟ ويقال: مر كسرى بشيخ كبير يغرس فسيلة فقال: أترى أن تأكل من ثمرها؟ فقال: لا ولكنني وجدت أرض الله عامرة فأحببت أن لا تخرب على يدي.
ويقال: إن شيخا كان يغرس شجر النارجيل وهي لا تثمر إلا بعد أربعين سنة فمر به كسرى وقال له: أتعيش إلى أن تأكل منها؟
فقال الشيخ: غرسوا وأكلنا ونغرس فيأكلون، فقال كسرى: زه زه وأمر له بأربعة آلاف درهم، وكان من عادته ذلك لمن يقول له زه، فقال الشيخ: أيها الملك إن غرس السابقين أثمر بعد أربعين سنة، وغرسنا أثمر في يومه، فقال كسرى: زه، وأمر له بأربعة آلاف مثلها.
وسئل واحد «1» : أي المال أفضل؟ فقال: عين خرارة في أرض خوارة، قيل: ثم ماذا؟ قال: الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل، يريد بها النخل. وقال الشاعر:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نسب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
إنّي مكب على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الأخوان ذو حال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا نداي إذا ناديت يا مالي
وقلت في المبهج:
إذا ما نقل الدهقا ... ن غلات الرساتيق
فكم من نعمة بيضاء ... في سود الجواليق
وقلت أيضا:
يا رب أنت وهبتها لي نعمة ... أضحت تعين على الزمان ببرها
ووهبت منها نعمة لا تلهني ... يا ربّ أنت بسكرها عن شكرها
مصادر و المراجع :
١-اللطائف والظرائف
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)
الناشر: دار المناهل، بيروت
28 نوفمبر 2024
تعليقات (0)