المنشورات
مبتدأ الخلق
قال أبو محمد: [1] قرأت في التوراة في أوّل سفر من أسفارها أنّ أوّل ما خلق الله تعالى [2] من خليقته [3] السماء والأرض. كانت الأرض خربة خاوية، وكانت الظّلمة على الغمر [4] ، وكانت ريح الله [5] [تبارك وتعالى] [6] ترفّ على وجه الماء. فقال الله: ليكن النّور، فكان النور [7] . فرآه الله حسنا، فميّزه من الظّلمة وسمّاه نهارا، وسمّى الظّلمة ليلا. فكان مساء وكان صباح [8] يوم الأحد.
وقال الله عزّ وجلّ: ليكن سقف وسط الماء، فليحل بين الماء والماء.
فكان سقف. وميّز بين الماء الّذي هو أسفل وبين الماء الّذي هو أعلى، فسمّى الله ذلك السقف الأعلى سماء. فكان مساء وكان صباح يوم الاثنين. «1» وحدّثنا أبو الخطّاب زياد بن يحيى، قال: حدّثنا مالك بن سعير [9] ، قال: حدّثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح: «2»
في قول الله عز وجل: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ 52: 6 «1» قال: كان عليّ رضى الله عنه يقول: هو بحر تحت العرش.
وهذا شبيه بما ذكر في التّوراة من أن السماء بين ماءين.
وعاد الخبر إلى التوراة:
وقال الله عزّ وجلّ: ليجتمع الماء كلّه الّذي تحت السماء إلى مكان واحد فلير اليبس. فكان ذلك كذلك. فدعا الله اليبس الأرض، وسمّى ما اجتمع من المياه البحور.
ثم قال الله عزّ وجلّ: لتخرج الأرض زهرة العشب والشجر بالحمل كلّا [1] ليبوسته، [2] وأخرجت الأرض ذلك فرآه الله حسنا. فكان مساء وكان صباح [3] يوم الثلاثاء.
وقال الله عز وجل: ليكن نوران في سقف السماء ليميّزا بين الليل والنهار، وليكونا آيات [4] للأيام والسنين. فكان نوران: الأكبر لسلطان [5] النهار، والأصغر لسلطان [6] الليل. فرآه الله حسنا. فكان مساء وكان صباح يوم الأربعاء.
وقال الله عز وجل: ليحرّك الماء كلّ نفس حية، وليطر الطير على الأرض في جوّ السقف. وخلق الله عز وجل/ 7/ تنانين عظاما، [7] وحرّك الماء كلّ نفس حية لجنسها، وكلّ طائر لجنسه. فرأى الله ذلك حسنا فبرّكهنّ [8] وقال: أثمروا وأكثروا.
وكان مساء وكان صاح يوم الخميس [3] .
ثم قال الله عز وجل: نخلق بشرا بصورتنا. فخلق آدم من أدمة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة. وقال: إن آدم لا يصلح أن يكون وحده، ولكن أصنع له عونا مثله، فألقى عليه السّبات، فأخذ أحد أضلاعه ولأمها «1» ، [1] وسمى الضّلع التي أخذ:
امرأة، لأنها من المرء أخذت. فقرّبها إلى آدم. فقال آدم: عظم من عظامي، ولحم من لحمى! ومن أجل ذلك يترك الرّجل أباه وأمّه ويتبع زوجته، ويكونان كلاهما جسما واحدا. وتركهما الله عز وجل وقال: أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض، وتسلّطوا على أنوان [2] البحار وطير السماء والأنعام والدواب وعشب الأرض وشجرها وثمرها. ورأى كلّ ما خلق فإذا هو حسن جدا. وكان مساء وكان صباح [3] يوم الجمعة.
وكمل كل أعمال الله عز وجل [4] التي عمل. ثمّ استراح في اليوم السابع من خليقته، وبرّكه [5] وطهّره وقدّسه.
[قال أبو محمد] :
الاستراحة: الإتمام والفراغ من الأمر، وهو قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ 55: 31 «2» معناه: سنقصد لكم، لأنه عز وجل لا يشغله شأن عن شأن] [6] .
ونصب ربّنا [1] الفردوس في عدن، وبها نهر يسقى الفردوس. فانقسم على أربعة رءوس: فيشون، [2] وهو محيط بأرض حويلا [3] كلها، وثمّ يكون أجود الذهب وحجارة البلّور [4] والفيروزج. واسم النهر الثاني: جيحون، [5] وهو محيط بأرض كوش والحبش. [6] واسم النهر الثالث: دجلة، وهو الّذي يذهب قبل أثور. «1» [7] قال:
وهي الموصل. والنهر الرابع: الفرات.
ونصب شجرة الحياة وسط الفردوس، وشجرة علم الخير والشر، [8] وقال لآدم:
كل ما شئت من شجرة الفردوس، ولا تأكل من شجرة علم الخير والشر، فإنك يوم تأكل منها تموت.
[قال أبو محمد] : [9] يريد أنك تتحوّل إلى حال من يموت.
وكانت الحيّة أعرم [10] دواب الأرض، فقالت للمرأة: إنكما لا تموتان إن أكلتما منها، ولكن أعينكما تنفتح، وتكونان كالآلهة تعلمان الخير والشر. فأخذت المرأة من ثمرها فأكلت وأطعمت بعلها، فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التّين واصطنعاه أزرا. ثمّ سمعا صوت الله عزّ وجل في الجنة حين نور [1] النهار. فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة. فدعاهما الله تعالى. فقال آدم: سمعت صوتك في/ 8/ الفردوس ورأيتني عريانا فاختبأت منك. فقال:
ومن أراك أنك عريان؟ ها، [2] لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. فقال:
إنّ المرأة أطعمتني. وقالت المرأة: إنّ الحية أطعمتني. فقال الله عز وجل للحية:
من أجل فعلك هذا أنت ملعونة، وعلى بطنك تمشين، وتأكلين التراب، وسأغرى بينك [3] وبين المرأة وولدها، فيكون يطأ رأسك، وتكونين أنت تلدغينه بعقبه. [4] وقال للمرأة: وأنت فأكثر أوجاعك وأحبالك. [5] وتلدين الأولاد بالألم، وتردّين إلى بعلك فيكون مسلّطا عليك. وقال لآدم: ملعونة الأرض من أجلك، وتنبت الحسك «1» [6] والشوك، وتأكل منها بالشقاء ورشح وجهك وجبينك. حتى تعود إلى التّراب من أجل أنك تراب.
وسمّى الله عزّ وجلّ امرأته حوّاء، لأنها أمّ كل حىّ، وألبسها وإياه سرابيل من جلود.
وقال: إنّ آدم قد علم الخير والشر، فلعلّه يقدّم [1] يده ويأخذ من شجرة الحياة فيأكل منها فيعيش الدّهر. فأخرجه الله عزّ وجلّ من مشرق جنّة عدن إلى الأرض التي منها أخذ.
فهذا ما في التوراة. «1» وأمّا وهب بن منبّه «2» فقد ذكر:
أنّ الجن كانوا سكان الأرض قبل آدم، فكفرت طائفة منهم فسفكوا الدماء، فأمر الله عز وجل جندا من الملائكة من أهل السماء الدّنيا- منهم إبليس، وكان رئيسهم- فهبطوا إلى الأرض فأجلوا عنها الجان، واستشهد على ذلك بقوله تعالى:
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ من قَبْلُ من نارِ السَّمُومِ 15: 27 «3» أي من قبل أن نخلق آدم. فألحقوهم بأطراف التّخوم وجزائر البحور [2] . وسكن إبليس والجند الذين معه عمران الأرض وأريافها. وكان اسم إبليس: عزازيل. «4» [3] ثم ذكر خلق الله تعالى آدم، وقال: ثم كساه لباسا من ظفر. «5» [4] ويزداد اللباس جدة في كل يوم وحسنا. فلمّا أكلا من الشجرة انكشط عنهما اللباس، وكان له مثل شعاع الشمس، حتى صار في أطراف أصابعهما من أيديهما وأرجلهما.
قال: وخلقه الله عزّ وجلّ يوم الجمعة، ومكثا [1] في الجنة ستة أيام، فكان أوّل شيء أكلاه في الجنة العنب. وكانت الشجرة التي نهيا عنها شجرة البر. وكان الله عز وجل أخدم آدم في الجنة/ 9/ الحية. وكانت أحسن خلق الله تعالى، لها قوائم كفوائم البعير. فعرض إبليس نفسه على دوابّ الأرض كلّها أنها تدخله الجنة، فكلها أبى ذلك عليه إلا الحيّة. فإنّها حملته بين نابين من أنيابها ثمّ أدخلته الجنة.
قال: ولما تاب الله عزّ وجلّ على آدم أمره أن يسير إلى مكة، فطوى له الأرض. [2] وقبض عنه المفاوز، فلم يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا، حتى انتهى إلى مكة. وكان مهبطه من جنة عدن في شرقىّ أرض الهند. وأهبط الله عزّ وجل حوّاء بحدّة، والحيّة بالبرّية، وإبليس على ساحل بحر الأبلّة. «1» [3] وقال ابن إسحاق:
يذكر أهل العلم أن مهبط آدم وحوّاء كان على جبل يقال له: واسم، من أرض الهند، وهو جبل بين قرى الهند اليوم، بين [4] الدّهنج والمندل.
[قال أبو محمد] : [1] والعرب تنسب الطّيب واليلنجوج إلى المندل، قال الشاعر يذكر امرأة:
إذا برزت نادى بما في ثيابها ... ذكيّ الشّذا والمندلىّ المطيّر
المندلىّ: العود، والمطيّر: المشقّق «1» .
حلية آدم [1] عليه السلام
قال: وكان آدم أمرد، وإنما نبتت اللّحى [2] لولده من بعده، وكان طوالا، كثير الشعر، جعدا آدم، أجمل البريّة.
ولمّا هبط إلى الأرض حرث، وعزلت حوّاء الشّعر وحاكته بيدها.
قال ابو محمد:
وقرأت في التوراة أنّ آدم جامع امرأته حوّاء، فولدت له قابيل. فقالت:
استقدت للَّه رجلا. ثم ولدت هابيل أخاه. فكان قابيل حرّاثا، وكان هابيل راعى غنم، فقرّبا قربانا، فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فقتل أخاه هابيل.
وقال وهب:
إنّ آدم كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وكان الرّجل منهم يتزوّج أيّ أخواته شاء، إلا توأمته. فأبى قابيل أن يزوّج [3] أخته- التي هي توأمته- أخاه هابيل، وقال: أنا أحقّ بأختي التي هي توأمتى. فغضب آدم وقال: اذهبا فتحاكما إلى الله بالقربان، فأيّكما قبل قربانه فهو أحقّ بها. فقرّبا القربان بمنى، «1» فمن ثمّ صار مذبح الناس إلى اليوم. [4] فنزلت نار فقبلت قربان هابيل. فقتل قابيل أخاه هابيل، رضخ «2» رأسه بحجر، واحتمل أخته حتى أتى [5] واديا من أودية اليمن في شرقىّ عدن/ 10/ [1] فكمن فيه. وبلغ آدم ما صنع، فوجد هابيل قتيلا، وقد نشفت «1» [2] الأرض دمه، فلعن آدم الأرض. فمن أجل لعنة آدم صارت الأرض لا تنشف الدّم وأنبتت الشّوك.
وقال أبو محمد:
وفي التوراة «2» : إنّ آدم طاف على امرأته [3] حوّاء، فولدت له غلاما، فسمّاه: شيئا، من أجل أنه خلف من عند الله مكان هابيل.
وولد لآدم أربعون ولدا في عشرين بطنا. فأنزل عليهم تحريم الميتة والدّم ولحم الخنزير، وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة. وهو أوّل كتاب كان في الدّنيا حدّ [4] الله عليه الألسنة كلّها.
قال أبو محمد: وحدّثنى زيد بن أخزم، قال: حدّثنى يحيى بن كثير، قال:
حدّثنى عثمان بن سعد [5] الكاتب، عن الحسن، عن عتىّ، [6] عن أبىّ: «3»
أنّ آدم عليه السلام لما احتضر اشتهى قطفا من قطوف [1] الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة فقالوا: إلى أين تريدون يا بنى آدم؟ فقالوا: إنّ أبانا اشتهى قطفا من قطوف [1] الجنة. فقالوا: ارجعوا فقد كفيتموه. فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسّلوه وحنّطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل، والملائكة خلف جبريل، وبنوه خلف الملائكة، ودفنوه. وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم يا بنى آدم.
قال وهب بن منبّه:
وحفر له في جبل أبى قبيس «1» ، في موضع يقال له: غار الكنز. فلم يزل آدم في ذلك الغار حتى كان زمن الغرق، فاستخرجه نوح وجعله معه في تابوت في السّفينة. فلما نضب الماء، وبدت الأرض لأهل السفينة، ردّه نوح إلى مكانه.
قال أبو محمد:
ووجدت في التوراة «2» أنّ جميع ما عاش آدم تسعمائة وثلاثون سنة.
وقال وهب:
عاش آدم ألف سنة.
مصادر و المراجع :
١-المعارف
المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ)
تحقيق: ثروت عكاشة
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1992 م
30 نوفمبر 2024
تعليقات (0)