المنشورات
مجانسة العربية لأخواتها:
لم يبق من أمهات اللغات السامية إلا ثلاث: العربية، والعبرانية، والسريانية، أما الحميرية فقد اندثرت قبل الإسلام غير ألفاظ قليلة، وتولدت منها لهجات مهرة والشحر في جنوب الجزيرة، وقد عثروا من هذه اللغة على آثار من القرن الخامس والسادس قبل الميلاد وتمكنوا من قراءة الخط المسند1.
أما اللغة البابلية أو الأشورية أو الكلدانية القديمة، فقد وفقوا في قراءة آثارها، حتى استخرجوا قواعدها ووضعوا فيها المعجمات كأنها من اللغات الحية، وصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة اثنتا عشر صيغة أكثرها موجود في العربية والعبرانية والسريانية، وبعضها غير موجود في جميعها, ولكنه طبيعي في أصل المنطق، مما يدل دلالة صريحة على أصالة تلك اللغة وتفرع الباقيات عنها، وتلك الصيغ هي:
فعَل نِفْعَل فاعَل شفْعَل
إفتعَل إفْتَنْعَل إتّفْعَل إتَّنْفَعَل
إفتاعَل إفتَنْعَل إستفعل إستَنَفْعل
فصيغتا افتَنْعَل واستنفعل لا توجدان في غير الأشورية، وفعَل وفاعل لا توجدان إلا في هذه اللغة وفي العربية، ونِفْعل واتَّفعل مما يوجد في السريانية والعبرانية دون العربية.
أما المشابهة بين الأخوات الثلاث "العربية والعبرانية والسريانية" فهي متحققة في جهات منها تحققًا يقطع الريب ويمتلخ الشبهة في أنهن أخوات أو فروع لأصل واحد2، وأخص ما يكون ذلك في الألفاظ الطبيعية التي لا تتغير بتبدل المواطن واختلاف الحالة الاجتماعية، وهي التي سميناها الألفاظ الخالدة: كالأرض والسماء، وكثير من ظواهر الطبيعة وأعضاء الإنسان ونحوها فإن مادتها فيهن واحدة على اختلاف قليل في بعض الأوزان والمقاطع، مما يرجع أكثره إلى الخصائص المقومة لهيئة كل لغة منها في منطوقها؛ وتجد في الأفعال والأسماء المشتقة دليلًا من ذلك في تناسب الوضع وتداني اللفظ. أما الألفاظ الثابتة في اللغة الإنسانية التي هي خلف من لغته الأولى، وهي الضمائر: فإنها في اللغات الثلاث باقية على حالة واحدة، وإن لم تخل من الفروق العارضة التي لا بد منها في الهيئة المقومة لمنطوق اللغة، والضمائر -كما لا يخفى- مادة أصلية لا تؤثر فيها زيادة مواد اللغة أو نقصها، وهذا مثال من حقيقة التشابه فيها:
الجزء العلوي يسحب سكان:1
فالمقابلة بين هذه الضمائر كافية في الدلالة على أن العربية مجانسة لأختيها وأنها أعذب منهما وأخف، والسبب في ذلك أنها صرفت على وجوه كثيرة؛ لأنها كانت غير مدونة، بخلاف العبرانية مثلًا، فإنها مدونة من أقدم أزمانها، والكتابة نص على النص، فبقيت ثابتة كما هي؛ فضلًا عما لقي العبرانيون من طول الاغتراب والتقلب بين أظهر الأمم المختلفة، وما ابتلوا به من الجوائح السياسية في متعاقب أزمانهم؛ وكل ذلك قد خلا منه العرب، وهم ليسوا من أهل المهن، ولا أورثتهم الطبيعة أسباب التبليد والغرة والذل.
وبعد؛ فإن الكلام في مجانسة العربية لأخواتها من اللغات السامية طويل الذيل عند علماء اللغات، وقد فصلوه تفصيلًا وجاءوا فيه بأشياء كثيرة من الحبشية والحميرية والعبرانية والسريانية والفروع الأخرى التي أومأنا إليها فيما سبق، مما لا محل لبسطه وتقريره؛ لأننا إنما نشير إلى التاريخ وقد يكون المثال الطبيعي برهانًا فيه.
على أنه يخلص من جملة أبحاثهم أن المشابهة بين العربية وباقي اللغات السامية أمر لا ريب فيه؛ وعلى ذلك فهي إما أن تكون فرعًا من الأصل الذي انفصلن عنه جميعًا، ويكون أصل الوضع مستصحبًا في جميعها على السواء؛ وإما أن تكون مشتقة من بعض تلك الفروع ثم كملت بما تناولته من غيرها إلى أن استقلت طريقتها المقومة لها بعد ذلك. وكلا الرأيين قريب بعضه من بعضه في النسبة؛ غير أنهم يرجحون الرأي الأول كما سلف بيانه.
ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، أن العدنانية يعدون أنفسهم متميزين عن القحطانية، ويقولون إن حميرًا تنمي إلى العرب وليست منهم، وكذلك يرون أن اليهود مع طول معاشرتهم إياهم واختلاطهم بهم ليسوا إلا حلفاءهم، فلا يبالون بأنسابهم ولا بلغتهم، وكأنهم لا يرون أنهم أخذوا من العبرانية أو الحميرية شيئًا وإنما ذلك شعور طبيعتهم السامية.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
10 ديسمبر 2024
تعليقات (0)