المنشورات
اللسان العربي في الشمال:
قامت في شمال الجزيرة دول عربية متحضرة: كالنبط والتدمريين، وهؤلاء وإن كانوا عربًا فيما حققه العلماء، بيد أن عربيتهم غثة غير متوقحة؛ لأنهم على أطراف البادية مما يلي الحجاز، وبذلك لا تعرف نسبة لغتهم إلى العربية العدنانية، وقد كانوا زمن نشأتها؛ لأن أقدم ما عرف من تاريخ النبط يرجع إلى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت أطراف مملكتهم تترامى إلى نواحي دمشق، وهم قوم كانوا يكتبون بالآرامية التي خلفت البابلية في مدونات السياسة والتجارة؛ لأن الأحرف العربية لم تكن وضعت يومئذ، والملك من أخص حاجاته الكتابة. على أن ما اكتشفوه من آثارهم الكتابية لا يخلو من ألفاظ شبيهة بعربية العدنانيين، مما رجح عند العلماء أنها تحول في الآرامية التي هي مشتقة من البالية القديمة، كما خرجت المضرية بذلك التحول عينه من فروع البابلية؛ وقد استدلوا بهذا على أن لسانهم كان عربيا على وجه ما حتى أثرت عربيته على لغة الكتابة التي اضطروا إليها بحكم الحضارة؛ وذلك شبيه بأمر النوبيين الذين يكتبون اليوم بالعربية، مع أنهم يتكلمون لغة تكفر بها العربية كفرًا لا إيمان له. وفي البلاد العثمانية طوائف من الأرمن والروم يتكلمون التركية ولكنهم يكتبونها بحروفهم القديمة، وذلك كان شأن بقية العرب في الأندلس بعد سقوطها، فإن بعضهم كانوا يكتبون عربيتهم بالأحرف الإسبانية، وتسمى هذه الكتابة "الخميادو" وكانوا يكتبون بها حتى الفقه والحديث والتصوف؛ ومن هذا النحو القلم "الكرشوني" عند السريان، وهو كتابتهم العربية بالأحرف السريانية.
وقد حمل تاريخ النبط منذ صارت مملكتهم ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني للميلاد، ونبه من بعدهم تاريخ التدمريين، وهم عرب أيضًا، حذوا حذو النبط في استعمال الكتابة الآرامية، ووجد العلماء في آراميتهم صبغة ضعيفة من العربية، مما يدل على أنها بسبيل من عربية من قبلهم، لا أثر فيها لأحكام البداوة ولا للغريزة الصحيحة. وقد عثروا على خطوط فيما بين دمشق والعلي, وهي من رسم الرعاة خطوها على الصخور؛ ومن أغرب ما في عربيتها أن التعريف فيها بالهاء، إذا قرأوا في بعضها هذه الكلمات "حامل بن سلم أخذ هفرس بخمسة أمني" أي: أخذ الفرس، و "أمني" نوع من النقود كانوا يتعاملون به، ويرجع تاريخ بعض ما قرأوه من هذه الخطوط إلى أوائل القرن الثاني للميلاد؛ لأنهم وجدوا هذه الكلمات في بعضها "الأنعم بن فاحش غنم سنة حرب نبط" وهذه الحرب كانت في أيام طرايانوس ملك الرومان في أوائل القرن الثاني.
وثم كتابة أخرى وجدوها على قبر امرئ القيس بن عمرو بن ملوك اللخميين الذين كانوا يتولون للفرس، ومقرهم الحيرة على طرف العراق، ولكنهم اكتشفوا هذا القبر بين آثار الغساسنة في حوران، وهم الذين كانوا يتولون للروم على مشارق الشام، والكتابة بالحرف النبطي، ويؤخذ منها أنها كتبت سنة 328 للميلاد، وهي لغة عربية تشوبها صبغة آرامية، وهذه صورتها:
وهذا نصها بالحرف العربي:
1- تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التاج.
2- وملك الأسدين ونزور وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وحاء.
3- يزجو في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزول بنيه.
4- الشعوب ووكله لفرس ولروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- عكدي هلك سنة 223 يوم 7 بسكسول بلسعد ذو ولده.
وترجمتها هذا:
1- هذا قبر امرئ القيس ملك العرب كلهم، الذي تقلد التاج.
2- وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم مذحج إلى اليوم، وقاد.
3- الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معدًا، واستعمل بنيه.
4- على القبائل، وأنابهم عنه لدى الفرس والروم؛ فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- إلى اليوم؛ هلك سنة 223 في اليوم السابع من أيلول، وفق بنوه للسعادة1.
وهذه اللغة تكاد تكون الحلقة المتوسطة بين الآرامية والعربية، أو هي أقدم ما يمكن أن يسمى عربية في اللغات الشمالية. أما البادية لذلك العهد فلا شك في أن لغتها كانت أخلص منطقًا وأعذب بيانًا وأدنى إلى عهد الجاهلية التي أدركها التاريخ؛ والفرق في ذلك بين اللغتين، طبيعة الفرق بين الجهتين.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
10 ديسمبر 2024
تعليقات (0)