المنشورات

الدور الثالث في تهذيب اللغة:

أما هذا الدور فهو عمل قريش وحدها، وهي القبيلة الأخيرة في تاريخ الفصاحة، بعد أن كان الثاني عمل القبائل جميعًا، وكان الأول عمل القبيلة الأولى، فتكون اللغة قد أحكمت على أدوار التاريخ الاجتماعي كل الإحكام، وذلك أن قريشًا كانوا ينزلون من مكة بواد غير ذي زرع، لا يستقل أهله بتكاليف الحياة، ولا يرزقون إذا لم تهو إليهم أفئدة من الناس، وكانت الكعبة شرفها الله وجهة العرب وبيت حجهم قاطبة في الجاهلية، فكان لكل قبيلة منهم صنم يحجون إليه، حتى قيل إنهم كانوا يقربون القرابين في الكعبة من الإبل والغنم لثلاثمائة وستين صنمًا1، وكانت تلك القبائل بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه، ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تاريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد؛ حتى رقت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم؛ وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس؛ وكانت لهم رحلتان في التجارة كل عام: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران، وهي حاضرة ذلك الجبل؛ وكذلك كانوا يضربون في الأرض إلى فارس وإلى الحبشة، فسمعوا مناطق الناس وتدبروا وجوه العذوبة في أعذبها، وتناولوا كثيرًا من ألفاظ تلك الأمم، فداخلت كلامهم وأعربوها من الرومية والفارسية والعبرانية والحبشية والحميرية؛ وعلى ذلك صاروا بطبيعة أرضهم في وسط العرب كأنهم مجمع لغوي يحوط اللغة ويقوم عليها ويشد أزرها ويرفع من شأنها ويزيد في ثروتها، وبالجملة يحقق فيها كل معاني الحياة اللغوية.
ولا يسع المتأمل في الأدوار التي تعاقبت على قريش في تهذيبها اللغة، إلا أن يستسلم للدهشة، ويحار من أمر هذا التعاقب، فإنه كالسلم المدرجة: تنتهي الدرجة منها إلى درجة، على نمط متساوق من الرقي إن لم يكن عجيبًا في تاريخ أمة متحضرة، فهو عجيب على الخصوص في تاريخ العرب، ولا سيما إذا اعتبرنا مبدأ تلك النهضة، وأنها لا تتجاوز مائة سنة قبل الهجرة إلى مائة وخمسين على الأكثر؛ فئلا بد من التسليم بأنها حادثة كونية من خوارق النظام الطبيعي، ظهرت نتيجتها بعد ذلك في نزول القرآن الكريم بلغة قريش، وهو أفصح الأساليب العربية بلا مراء؛ والله يحكم ما يشاء ويقدر. 














مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید