المنشورات
البقايا الأثرية في اللغة:
الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس؛ فالذهن يشبه أن يكون في علم الحياة كتابًا موضحًا بالرسوم: يقرر الحقيقة ويمثلها ويداخلها بين أجزائها, ولكنه لا يعطيها؛ فقد تعلم لذة الطعام إذا كنت جائعا وتتصوره أقرب من فوت ما بين اليد إلى الفم، وتتخيل منه كل ما تشتهي النفس، بل قد تجد طعمه ورائحته إذا كنت شاعرًا دقيق موضع الاتصال بين الحواس الظاهرة والباطنة؛ ولكن تلك المائدة الذهنية على كثرة ما وسعت وطيب ما احتوت، لا تعدل عندك لقمة واحدة تلجلج الفكين!
فالألفاظ مقصرة دائمًا عن بيان معانيها بيانًا يطابق نوع الخلق، ويوافق حالة الوجود، فإذا قيل أمامك: جاء زيد، وكنت لا تعرف من زيد هذا، لم تعد أن تتمثل رجلًا من الرجال، ولكنك إذا عرفته تمثلت نوعًا من الخلق متميزًا بحالة خاصة من أحوال الوجود؛ ومن هنا كان التاريخ -الذي هو بيان نفسي محض لا يؤدى إلا بالألفاظ- من المعاني الكلية والمبهمة التي لا تثبت على قياس واحد الحقيقة، بل لا بد فيها من الزيادة والنقص؛ لأن مرجعها إلى التصور، وهو مجموع ظلال متقلبة على النفس.
ومن التاريخ ما لا يقتصر الإبهام على مدلوله فقط، ولكن يتناول الألفاظ الدالة أيضًا، وذلك لأن صورته الذهنية تكون في مجموعها ملفقة، غير مضبوطة على قياس مألوف من حياة المتكلم؛ فإذا أصاب تلك الألفاظ لم يجد لها في ذهنه رسمًا معينًا؛ لأنها أطلال زمنية؛ وأكثر ما يكون ذلك في العادات والمصطلحات اللغوية التي تتغير بتغير الأزمان والأقوام، فإذا انقرض أهلها انقرضت معهم وبقيت ألفاظها في اللغة مبهمة في ذاتها، حتى إذا ألحقت بالشرح التاريخي أو اللغوي الذي يكشف غموضها ويزيل إبهامها دخلت في الحياة الذهنية، ولكنها تبقى مع ذلك بالنسبة لانقطاعها من الوجود بقايا أثرية في اللغة1.
ولو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى، وما اختصت به من المعاني، وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسمًا كبيرًا من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية؛ لأننا لا نحتاجه ولا هو مما يعد فضلًا عن الحاجة فينتظر به وقتها؛ وذلك كأسماء الإبل وصفاتها الكثيرة، وكأسماء كثير من الحشرات وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير تطفح به معاجم اللغة؛ ولقد نرى أن ذلك مما يصح أن يسمى "لاتينَ العربية" قياسًا على اللغة اللاتينية التي لا يستعملها الأوروبيون، ولكن يشتقون منها أسماء المصطلحات التي تمس إليها الحاجة فيما يستحدثون من أمورهم؛ لولا أن "لاتيننا العربي" يحتاج منا إلى عربية تلائمه؛ فإن استحياء الماضي لا يكون إلا بالملاءمة بينه وبين روح الحاضر.
ولسنا إلى ذلك نذهب، فهو بجملته لا يخرج عما يسمونه وحشيا1 أو غريبًا2 أو حوشيا3، وإنما نريد بالبقايا الأثرية ما أراده علماء اللغة أنفسهم حين جمعوها، فإنهم عدوا من اللغات: منكرًا، ومتروكًا، ومماتًا؛ فالمنكر: ما لا يعرفه بعض أئمة اللغة لكونه مهمل الاستعمال في العرب إلا قليلًا، وهو دون الضعيف الذي ينحط عن درجة الفصيح: كقول بعض أهل الحجاز: ذَأَي يَذْأَي، وهي في لغة أهل نجد: ذوى يذوي، وعليها الاستعمال. والمتروك: ما كان قديمًا من اللغات ثم ترك واستعمل غيره، وهذا ما سميناه آنفا "بالمصطلحات اللغوية" كالغزِّين في بعض تلك اللغات المتروكة أي: الشدقين، واحدهما غز؛ والبعقوط والبلقوط أي: القصير، ونحو ذلك. والممات: ما أميت استعماله: كأسماء الأيام والشهور في اللغة الأولى على ما زعموا، وقد ذكرها صاحب "الجمهرة"، وهي هذه:
ومن الممات عندهم لغات في التصريف: كقول الكسائي: محبوب، من حببت، وكأنها لغة قد ماتت، كما قيل: دمت أدوم، ومت أموت، وكان الأصل أن يقال أمات وأدام5 في المستقبل -المضارع- إلا أنها قد تركت. ومن ذلك "ليس" الفعل الناقص؛ فإن بعضهم يظن مضارعه وأمره من الأفعال الممات؛ ومما عدوه متروكًا من أسماء العادة العربية لزوال معانيه في الإسلام: المرباع: وهو ربع الغنيمة، وكان خاصا بالرئيس، ثم صار في الإسلام، الخمس. والنشيطة: هي أن ينشط* الرئيس عند قسمة المتاع الشيء النفيس يراه، إذا استحلاء. والفضول: وهي فضول المقاسم كالشيء إذا قسم وفضلت فضلة منه: كاللؤلؤة والسيف والدرع والبيضة والجارية؛ فكان ذلك من قسم الرئيس. وقد جمع هذه العادات كلها ابن غنمة الضبي في مرثيته لبسطام بن قيس إذ يقول:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
أما الصفايا فبقيت في الإسلام، وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اصطفى في بعض غزواته من المغنم أشياء: كالسيف اللهذم، والفرس العتيق، والدرع الحصينة، والشيء النادر؛ وذلك يسمى الصفي، قالوا: وقد زال هذا الاسم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
والممات من أسماء العادات شيء كثير يستجر الكلام إلى قسم من تاريخ العرب لا يسعه هذا الموضع؛ فقد كانوا أهل مغاورات وإغرام بالمعاقرة والمياسرة ونحوها، ولكل ذلك أسماء وصفات، فنجتزئ بما ذكرناه، ولكن لا بد من التنبية على شيء دقيق في هذا الباب، وذلك أنا لو تدبرنا الكلام الذي نستعمله لرأينا أشياء كانت من عادات العرب الخاصة بها ثم نقلتها الحضارة إلى معنى يناسبها بعد أن انتزعت منها الأصل التاريخي، فمن ذلك أن الواحد يقول: نحن فعلنا، وليس معه غيره، فلا يظن إلا أنه أراد تعظيم نفسه، وأنه ليس لهذا الاستعمال من أصل تاريخي في الكلام, وإنما الأصل أن العرب كانوا قبائل وجماعات, فكان الرئيس الذي له أتباع يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويتداعون لألمه،
كأنهم أجزاء من شخصه، يقول: أمرنا، ونهينا، وغضبنا، ورضينا لعلمه بأنه إذا فعل شيئًا فعله تباعه لا يخذلونه ولا يخالفونه، ثم كثرة استعمال العرب لهذا الجمع ملحوظة فيه تلك الدلالة، ثم استفاض في الكلام حتى صار الواحد من عامة الناس يقول وحده: قمنا، وقعدنا، لا يريد إلا المعنى الحضري المصنوع، وهو التعظيم الحقير.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
10 ديسمبر 2024
تعليقات (0)