المنشورات
نمو العربية وطرق الوضع فيها:
العربية أوسع اللغات مدى، أغزرهن مادة، وأوفاهن بالحاجة الحقيقية من معنى اللغة؛ لكثرة أبنيتها، وتعدد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق، وانفساحها من ذلك إلى ما يستغرق اللغات بجملتها، مع أنها أقل هذه اللغات أوضاعًا، حتى إن المستعمل منها لا يتجاوز ستة آلاف تركيب، وإذا رددت الثلاثي منه وما فوقه إلى التركيب الثنائي، لم يكد يزيد ما يخرج منه على ثلاثمائة لفظة، هي أصل الأوضاع وسائر التراكيب المستعملة متفرع عنها. كما تفرعت سائر مواد اللغة عن هذه التراكيب بالاشتقاق، وهي في الجملة لا تقل عن ثمانين ألف مادة، عدة ما اشتمل عليه معجم لسان العرب.
وظاهر أن اللغة لم تترام إلى هذا الاتساع إلا بعد أن قلبت على وجوه كثيرة في الاستعمال، وأديرت على مناحي مختلفة من الوضع؛ بما في أصل تكوينها من الحياة النامية التي تكافئ حياة أهلها وتماد أزمنتها مهما كثرت أغراض هذه الحياة واستفاضت معانيها، واستبحرت في مذاهب العمران؛ فهي في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزاء المتكلم من تلك الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرفها الألسنة والأقلام في مناح من العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي. وإن صمت الطبيعة البدوية إنما هو في حقيقة الاعتبار جزء متمم في المعنى للغة أهلها، كما أن حركة العمران إنما هي حركة العمل في مصنع اللغة. وليس يخفى أن حياة اللغة وموتها أمران يؤخذان بالاعتبار؛ فإن اللغة الحية هي التي تكون مشايعة بأوضاعها لكل ما يجد من مستحدثات الحياة، فكلما خلت ألفاظها المتداولة بين أهلها مما يصور معنى جديدًا أو يؤدي غرضًا حادثًا، لم تعقم أوضاعها بما ينتج هذا اللفظ الجديد ويسد هذه الخلة الطارئة؛ فهي بذلك فيما تأخذ وتدع كأنها تتنفس، والتنفس أول صفات الحياة.
ولكن اللغة التي ترمى بأنها في سبيل الميتة، لا يزال يطرأ عليها النقص كلما زادت مستحدثات الحياة؛ لوقوفها عن حد من الوضع محدود، وقعودها بكل طريق تدفع إليه من طرق التعبير، فلا يبرح أهلها يتناولون من غيرها، ويزيدون نقصها؛ حتى تصبح بهذه المداخلة لغة جديدة من عمل الزمن وكأن أصلها بقية من أهلها، وأهلها بقية من أصلها؛ لفقدان المميزات الجنسية التي أخص دلائلها اللغة.
وقد عرفوا الحي بأنه الكائن الذي ينمو من باطنه؛ فإذا كان في اللغة ما يساعد على نموها المستمر مع بقائها متميزة في نفسها -بحيث تحيل كل ما يداخلها من ألفاظ اللغات الأخرى إلى أوضاعها الخاصة بها والمقومة لهيئتها، فلا تتحيفها الزيادة الطارئة عليها مهما بلغت، ولا تخرجها من حيزها إلى مضطرب لا تثبت لها فيه الجنسية ولا ينطبق عليها وصف الاستقلال- وإلا فتلك هي اللغة التي أحق ما توصف به أنها سائلة من طرق الكلام، وأن أهلها صعاليك في طرق التاريخ!
والعربية قد غَنِيت بأواضعها حتى كأنها خلقت لتماد الزمن، وفيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، غير أنه قد أصابها ما أصاب أهلها من تبدد الكلمة واضطراب الأمر ووهن الاستقلال وتمزق المجتمع، فأصبحت بعدهم كأنها محكومة بقوة خفية لا يعرف ما هي ولا يظهر منها إلا أثرها الذي تتبينه فيما لحق اللغة من الضعف وما رهقها من العجز، وفي جمودها على حال واحدة كأنها مقبورة في كتبها منذ تراجع التمدن الإسلامي أيام العباسيين إلى قريب من هذه الغابة.
ومتى كانت اللغة صورة الأمة فإن كان ما يعتور هذه يتصل أثره بتلك ضرورة. ولذلك بقيت العربية في نفسها على مرونتها الأولى حتى يتاح لها أقوام كأولئك الأقوام، وتفيض لها أقلام كتلك الأقلام.
وليس من غرضنا أن نفيض هنا في هذه المعاني، وإنما تريد لنبين أنواع النمو في هذه اللغة، والطرق التي جرت عليها في الوضع؛ إذ لولا ذلك ما خطت اللغة في التاريخ خطوة واحدة.
طرق الوضع:
وأنت إذا تدبرت المأثور من ألفاظ اللغة، وجدته في الجملة لا يخلو من ثلاث: إما أن يكون مرتجلًا أو مشتقا، أو منقولًا على وجه من جوه المجاز؛ وهذه الثلاث هي طرق الوضع التي تقلبت عليها اللغة، وهي تشبه أدوار الخلقة الكاملة، فإنها ثلاثة أيضًا: التركيب، والقوة، والجمال؛ فالمجاز جمال اللغة، والاشتقاق قوتها، والارتجال تركيب الخلقة فيها؛ ويندر أن تجد ذلك كله في لغة من اللغات على مقدار ما تجده في العربية؛ فلا جرم كانت حرية بأن تكون مناط الإعجاز؛ لأنها الخلقة اللغوية الكاملة.
الارتجال:
وهو وضع اللفظ ابتداء في أول أمر اللغة بتقليد الطبيعة كما مر في موضعه؛ ولا يمكن أن يحاط بأوائل كلامهم، وعلى أي مقادير كانوا يضعونها، غير أنه مما لا شك فيه أنه لم يبق وجه للزيادة على ما ارتجلوه؛ لتقليبهم صور التراكيب المرتجلة على كل ما في آلات الصوت من المقاطع، بحيث لم يدعوا منها إلا المستكره المبذوء مما يتعتع به اللسان وينبو عنه السمع ولا يكون منه إلا تنكير الأسلوب وتغيير ديباجة اللغة؛ بيد أن هذا إنما هو في الارتجال الذي تراعَى فيه النسبة بين اللفظ الموضوع له، كمحاكاة الأصوات والحركات الطبيعية ونحوها، أما فيما عدا ذلك فإن العرب كانوا يتصرفون في لغتهم، فيرتجلون ألفاظًا قليلة ليست فيها ولا هي مأخوذة بالاشتقاق، كما يصنع كثير من العامة اليوم؛ فقد يتفق لأحدهم أن يضع كلمة يرتجلها لمعنى من المعاني على طريق التظرف والتملح، فلا تلبث أن تشيع وتصير من أصل اللغة؛ وكذلك كان يفعل العرب.
قال ابن جني فيما ينفرد به العربي من اللفظ ولا يسمع من غيره ما يوافقه ولا ما يخالفه: "إنه يجب قبوله إذا ثبتت فصاحته؛ لأنه إما أن يكون شيئًا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشاركه في سماع ذلك منه أحد ... أو شيئًا ارتجله؛ فإن العربي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبيه1، أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعها ولا سبقا إليها. أما لو جاء ذلك عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته، فإنه يرد ولا يقول" ا. هـ.
ومهما يكن من ذلك فإن الارتجال أمر مفروغ منه؛ لأن تاريخ الشباب كله لا يقع فيه يوم واحد من عهد الطفولة.
الاشتقاق:
كل ما يوضع من اللغة ارتجالًا فإنها وضع لمناسبة بين الدال والمدلول على وجه من الوجوه؛ ولولا تحقق هذه المناسبة ما تأتى للواضع أن يشتق لفظًا من لفظ؛ لأن الأصل في الاشتقاق المناسبة في المعنى والمادة؛ فلولا اعتيادهم مراعاة المناسبة في الوضع الأول ما تنبهوا إليه في الوضع الثاني؛ لأن بعض الأشياء يدعو إلى بعض، والارتقاء سنة لا بد فيها من اطراد النسبة.
وعلى هذا أمكنهم أن يجعلوا كل مقطع من المقاطع الثنائية أصلًا في الدلالة، ثم يفرعون عنه بالاشتقاق معانيه الجزئية المختلفة التي ترجع في أصل الدلالة إليه؛ فكأن المعاني سلائل مرتبة تنحصر كل طائفة منها تحت جنس معلوم، على ما قرروه في مذهب النشوء والارتقاء. ولا يزال هذا التسلسل متحققًا في اللغات السامية الباقية إلى اليوم، وهو أظهر في العربية منه في أخواتها؛ حتى ذهب بعض العلماء الذين استقروا تراكيب اللغة إلى أن هذا الأصل مستصحب في كل تركيب، بحيث لا يخلو مما يرجعه إليه ولو تأويلًا من طريق المجاز، إلا ما تخلف عن سلسلته لأمر طارئ على أصل الوضع، كأن يكون مبدلًا من لفظ آخر، أو مقلوبًا عنه، أو داخلًا في تركيب المادة من لغة أخرى؛ لأن العلماء الذين دونوا هذه اللغة جمعوها من لغات كثيرة بعد أن تدخلت هذه اللغات بعضها في بعض، لتعاور العرب ألفاظها جميعًا؛ فخفي بهذا التداخل كثير من وجوه الوضع الاشتقاقي؛ أوضاع النقل كثيرًا من ألفاظ اللغة مما انثلمت به سلسلة أوضاعها فأصبحت بحيث لا يمكن أن يدل فيها على تحقق التسلسل إلا باعتبار الأغلب الأعم.
وقد نقلوا عن بعض المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع؛ وكأن بعض من يرى هذا الرأي يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل: ما مسمى "إذغاغ"؟ وهو بالفارسية الحجر؛ فقال: أجد فيها يبسًا شديدًا، وأراه الحجر.
أما خواص أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطيقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، وقد عقد لها ابن جني بابا في "الخصائص" سنشير إليه عند الكلام على التمدن اللغوي.
وأول من ابتدع القول بأن المعاني سلائل مرتبة، وأن الألفاظ المختلفة ترد في الاشتقاق إلى قدر مشترك، هو فيلسوف العربية أبو الفتح بن جني المشار إليه؛ وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس بهذا الرأي قليلًا.
أما علماء العربية فقد قالوا إن ذلك ليس متعمدًا في اللغة؛ لأن الحروف قديمة وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكاد تتناهى.... ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة المادة معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها، ولكن التحيل على ذلك في جميع مواد التركيب، كالطلب لعنقاء مغرب، وجواب ذلك عندنا ما تقدم الإيماء إليه، من مداخلة اللغات وتفريط النقلة ونحو ذلك، مما لا ينتظم به أمر التاريخ اللفظي في هذه اللغة.
ولابن جني في تحقيق رأيه كلام سابغ الذيل سنشير إليه في الفصول التالية.
أما الكلام على الاشتقاق من حيث هو علم ذو أقسام وحدود فهو مبسوط في مواضعه من كتب الصرف والكتب الأخرى المجردة في هذا العلم، ولا حاجة بنا إليه؛ لأنه إنما نريد جهة التاريخ منه وكونه سببًا من أسباب نمو اللغة وطريقة من طرق نشأتها.
وقد قلنا في تحقيق المناسبة بين الألفاظ والمعاني وأن أكثر أهل اللغة والعربية مطبقون على ثبوتها؛ لأنها في الحقيقة ليست إلا توسعًا في المناسبة الأولى التي هيأت للواضع أن يضع بالتقليد والمحاكاة. ونحن ذاكرون طرفًا مما يثبت تلك المناسبة:
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : أنفق الشيء وأنفذه أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج.
وقال في تفسير قوله عز وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] ، [المائدة: 7] : والمفلح "بالحاء والجيم": الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو: فلَق وفلَذ وفلَى يدل على الشق والفتح. وللزمخشري عناية بذلك في مواضع من تفسيره أيضًا.
ومن هذه الأمثلة أن تراكيب الهمزة مع الباء تدل على النفور والبعد والانفصال: كأب: للسير، وأبت اليوم: اشتد حره فقطع الناس وفصلهم عن أعمالهم، وأبد الوحش: نفر، وأبر النخل: قطع شيئًا منه، وأبز الظبي: وثب وانطلق، وأبق العبد: فر، وأبل: توحش وانفصل عن الناس، وأبه عن الشيء: بعد عنه وتنزه، وأبي الضيم: نفر منه، وهكذا.
والألف مع الزاي تدل تراكيبها على الضيق في الأمر، يقال: أزر المجلس: إذا ضاق، وأزق الرجل: ضاق صدره، وأزل: صار في ضيق، وأزم: ضاق عيشه، وأزى الظل: قلص وضاق.
وتراكيب الباء مع الدال تدل على الابتداء والظهور، نحو بدأ الشيء وبدا أي: ظهر، وبدح فلانًا بالأمر: أظهره له من دون روية، وبدح: أظهر التعظيم، وبدر إليه بكذا: أظهره له، وبدع أي: ابتدأ، وبدخ بالشر: أظهره، وبده بالأمر بديهة أي: ابتدأ به.
والباء مع الذال تدل تراكيبها على إخراج الشيء، نحو: بَذِيَ: أخرج الفحش في كلامه، وبذح وبذل: أعطى فأخرج ما عنده، وبذج: أخرج شقشقته، وبذر: أخرج سره أو ماله بغير تقدير؛ وبذن: أقر بما يخفيه فأخرجه.
والباء مع الراء تدل على الظهور، نحو برأ الله الخلق: أظهره، وبرت: دل على الشيء فأظهره؛ وبرج: ظهر. ومنه التبرج. وبرح الخفاء: ظهر. وبرخ: زاد فظهر فيه الزيادة. وبر: ظهر وبرز كذلك, وبرش: ظهور بياضه. مثله. وبرض الماء: ظهر.
وكذلك الباء مع الزاي. كبزج: أظهر فضائله. وبزح الصيد: خرج. وبزر النبات: خرج بزره. وبزع الغلام: ظهر ظرفه. وبزغت الشمس: طلعت، وبزقت مثله. وبزل ناب البعير: طلع. وبزن الحق: ظهر. وهلم جرا.
ولو استقريت تراكيب اللغة كلها لوجدت مواد كل تركيب ترجع إلى أصل واحد. ولو تأويلًا من طريق المجاز. إلا ما تخلف من سلسلته لأمر طارئ، كما أشرنا إليه في صدر الكلام؛ وليس يخفى أن سلسلة الاشتقاق في كل لفظة إنما هي نسق تاريخي في تدوين نسبها اللغوي وفروع هذا النسب؛ وقد بينا من قبل أن الرواة أغفلوا كل ما يتعلق بالجهات التاريخية في اللغة؛ فلا جرم انثلمت سلاسل الاشتقاق وضاع كثير من تلك الأنساب؛ إلا ما تدل عليه مشابهات الخلقة اللفظية؛ وهو ما يعرف بالاستقاء كما مثلنا له آنفًا.
وكذلك ترى في أكثر صيغ الأمثلة من الفعل والاسم على السواء؛ فإن القياس ثابت فيها ثبوتًا بينًا: كصيغتي فاعَلَ وتَفاعل، وكوزن فُعلة في الأسماء1 وغير ذلك ذلك مما نبهوا على اطراد القياس فيه وأحصوا شواذه، وهو خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
ولو أن أحدًا عكف على هذه اللغة فتتبع ألفاظها وتدبر وجوه اشتقاقها وتفقد مواقعها في كلام العرب ورتب صيغها وأوزانها على ما تقتضيه أغراضها بحيث يستقر كل مثال منها في نصابه ويرد إلى حيزه؛ لجاء من ذلك بعلم يكشف عن كثير من أسرار الوضع، ويهتك عن أستار الحكمة المستكنة في دقائق هذه اللغة العجيبة التي يزيد في العجب منها أنها لغة تلك العقول الفطرية، والفطرة وإن كانت دائمًا تختص بمسحة إلهية، إلا أنها تكون أصل الكمال في النفس لا نفس الكمال. وهذه اللغة يوشك أن يكون أمرها معجزًا على ما رأيت بحيث لا يغلو في رأينا من يقول إنها بسبيل من الأوضاع الإلهية "في التوفيق والإلهام" لأن أثر ذلك قد ظهر في القرآن.
المجاز:
وهذا هو الوضع الأخير في اللغة؛ ولذا تجد مراعاة المناسبة فيه على أضعف وجوهها؛ فكأنهم في الوضع الأول راعوا المناسبة الثابتة التي لا زيادة فيها، ثم توسعوا في هذه المناسبة بنوع من التصرف في الوضع الثاني وهو الاشتقاق، ثم بلغوا آخر حدودها "المناسبة" في المجاز؛ وهذا مما يؤكد أن اللغة كلها حكاية للطبيعة؛ فإن كان ثم توقيف أو وحي فيكون في هداية العقول إلى أسرار هذه الحكاية، ولا بد في استكناه منطق الطبيعة من الذهن الشفاف والبصيرة النفاذة والإلهام الخفي الذي يشبه أن يكون قبسًا من النور الإلهي يضيء بين العقل والقلب فلا يقع شعاعه على جهة من الطبيعة إلا كشف منها عن معاني الأسرار الإلهية.
والمراد من المجاز التوسع في الحقيقة؛ لأن الألفاظ الحقيقية تمضي لسننها المعروف فلا يبقى ثمة وجه لتقوية الحقيقة المرادة منها بالاتساع أو التوكيد أو التشبيه؛ وليس يخفى أن الحقيقة الواحدة تتنوع في ذاتها إلى أجزاء متشابهة، وتتنوع في معناها أيضًا على درجات من الضعف والقوة، فإذا كان معنى "الكوكب" في الوضع اللغوي الدلالة على هذا الجرم السماوي الذي يشبه نكتة بيضاء في رأي العين، ثم رأيت في عين الإنسان نكتة بيضاء تغشى سوادها؛ فقد تجزأت الحقيقة النظرية هنا في ذاتها فتطلق على بياض العين "النكتة" اسم الكوكب مجازًا للمناسبة بين الاثنين في الشكل؛ وكذلك تقول في التوكيد: فلان أسد، تريد إثبات شجاعته في النفوس بدرجة متناهية مؤكدة؛ ثم تقول في التشبيه: فلان على جناح السفر أي: لا يلبث أن يسافر، كأنه طائر بسط جناحه فليس إلا أن يطير. وإنما مدار ذلك كله على التوسع في المثال الحسي إذا ضاقت به الحقيقة المألوفة في التعبير.
ولسنا نخوض هنا في أنواع المجاز وجهاته وتحقيق القول في الاستعارة وأقسامها، فذلك من موضع علم البيان، بل هو البيان كله على ما قيل؛ وإنما نتناول الكلام من حيث يتصل بمعنى التاريخ؛ فالمجاز صنعة حقيقة في اللغة لا تتهيأ إلا بعد أن يكون العرب قد استكملوا أسباب النهضة الاجتماعية من المخالطة واقتباس بعضهم عن بعض واعتبارهم أنفسهم في أمر اللغة مجموعًا معنويا؛ فينصرفون إلى تشقيق الكلام وتتبع أظلال المعاني في أجزائه، حتى تتسع لغتهم على نسبة هذا الاجتماع المعنوي؛ وذلك ما سنفرد للكلام عليه باب التمدن اللغوي.
لا جرم كان للمجاز في اللغة هذا الأثر الذي بسط منها حتى فاضت أطرافها على المعاني، وتهيأ فيها من أنواع الوضع طرق التعبير ما يعد في اللغات ميراثًا خالدًا تستغل منه المعاني في كل جيل، ويضمن للغة الثروة وإن أفلس أهلها ...
والوضع بالمجاز بعتبر اشتقاقًا معنويا، فما لم يتهيأ للعرب أخذه من طريق الاشتقاق أخذوه بالنقل من طريق المجاز؛ وبذلك وسعوا لغتهم من جهات:
1- الإكثار من الألفاظ وتعدد الوضع الواحد تفننًا في التعبير، كما تسمى الخوذة بالبيضة وبالتريكة، وهي بيضة النعام بعد أن يخرج منها الفرخ وكتسمية المطر بالسماء، والنبات بالغيث، ونحو ذلك.
2- التذرع إلى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات، كتسمية البياض في العين بالكوكب، وغضروف الأذن بالمحارة، والهنية الناشزة في مقدم الأذن بالوتد، وكقولهم: ذؤابة الرحل، للجلدة المعلقة على آخره، وعنق الإبريق، وساق الشجرة، وأبط الوادي، ونحو ذلك.
36- التذرع إلى الوضع لتمثيل صور المعاني، كقولهم: نبض البرق، إذا لمع خفيفًا، من نبضان العرق؛ وسبح الفرس، إذا مد يديه في الجري كما يفعل السابح في الماء؛ ورنقت السفينة، إذا دارت في موضع واحد لا تمضي من ترنيق الطائر، وهو أن يخفق بجناحه ويرفرف ولا يطير.
4- الرمز إلى حقائق المعاني، كقولهم: سافر ولا ظهر له، أي: ولا دابة يركب ظهرها؛ وفلان يملك كذا رقبة؛ أي: عبدًا؛ وقطع الأمير اللص، أي: قطع يده؛ وبزلت الخمر، أي: ثقبت دنها، وهلم جرا.
وهذه الجهات الأربع الأصلية تجمع أنواع المجاز وكل ما يحمل على هذه الأنواع، ثم هي معان تشبه أن تكون تاريخية في حركة النمو، والاتساع من هذه اللغة، ولذلك استخرجناها وعدلنا إليها عن تقسيم علماء البيان، فإن لهم في بحث المجاز كلامًا مستفيضا مضطربًا لا يؤخذ منه شيء يلتحق بغرضنا في هذا التاريخ.
وقد رأينا أن ننقل مادة من مواد اللغة تمثل هذا الوضع. وكيف اتسعت به اللغة حتى قلب المعنى الواحد على صور كثيرة، وهي مما نقله بعض اللغويين مثالًا لما نحن بسبيله؛ ومثل هذه المادة كثير في اللغة تطفح به معاجمها، وإنما خصها بالذكر لسعة التصرف فيها ووضوح المآخذ، وهي مادة "ك ف ف".
وأصل المعنى فيها: الكف، وهي الجارحة المعروفة، والكلمة مشتركة بين العربية وغيرها من اللغات السامية، ومأخذها في العبرانية والسريانية من معنى الانحناء والانعطاف. هذا أصلها.
ثم اشتقوا منها قولهم: كفه عن الأمر، إذا منعه، كأنه دفعه بكفه، فنقلوا معنى الكف إلى لازمها، وهو من المجاز المرسل.
وقيل من هذا: كف هو عن الأمر، إذا امتنع، فنقل الفعل من التعدي إلى اللزوم، وهو من قبيل ما سبقه.
ثم قيل: استكف السائل، وتكفف، إذا طلب بكفه. ويقال أيضًا: استكف بالصدقة، إذ مد يده بها يعطيها؛ فضمن الأول معنى الاستعطاء، والثاني معنى الإعطاء؛ وكلاهما مما ذكر.
ومن هذا القبيل قولهم: استكففت الشيء، إذا استوضحته بأن تضع كفك على حاجبك كمن يستظل من الشمس، فاستعمل هنا في معنى آخر من لوازم الكف.
ومن معنى كف عن الأمر قيل: كف بصره؛ وهو من المجاز المرسل، من قبيل استعمال العام في الخاص.
وفي مثل مأخذه قولهم: وكفاف من الرزق أي: ما كف عن الناس وأغنى.
ثم قيل من معنى الكف للجارحة: كفة الميزان، وكفة المقلاع؛ لشبهها بالكف في الهيئة، وهي من الاستعارة.
ثم استعيرت الكفة لعود الدف بكفة الميزان في الاستدارة والإحاطة، ومثلها الكفاف: وهو ما استدار بالشيء.
والكفة أيضًا النقرة المستديرة يجتمع فيها الماء، وهي مما ذكر.
ومن معنى الاستدارة قيل: كفة الصائد، وهي الحبالة يجعلها كالطوق، ومثلها كفة اللثة، وهي ما انحدر منها على أصول الأسنان، وكفة القميص، وهي ما استدار حول الذيل، وكذلك كفة الدرع، وهي أسفلها.
ثم قيل من هذا المعنى: استكفوا حوله، إذا أحاطوا به ينظرون إليه؛ واستكفت الحية إذا ترحت، أي: استدارت كهيئة الرحى.
ومن كفة القميص قيل: كفة الثوب وغيره، وهي حاشيته.
ومن معنى الحاشية قيل: كفة الشيء، بمعنى حرفه؛ وكفاف السيف "بالكسر" بمعنى غراره "أي: حده"، وكل ذلك على التشبيه.
ثم قيل من معنى الحاشية: كف القميص؛ إذا خاط حاشيته.
ومن معنى الحرف: كف الإناء، إذ ملأه ملأ مفرطًا، كان المعنى ملأه حتى بلغ كفته.
وبقيت معان من هذه المادة ترجع إلى معنى الكف، أو شيء من المجاز المأخوذ عن بعض المعاني الراجعة إليه، بحيث ترى المعاني سلسلة متصلة من أول المادة إلى آخرها. وهذا هو الأصل الذي عليه معظم كلامهم؛ فإذا تدبرته رأيت أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، وتبينت صحة قولهم: إن منكر المجاز في اللغة جاحد للضرورة ومبطل محاسن لغة العرب.
وقد ذكروا أن بعض العلماء يذهبون إلى أن اللغة كلها حقيقة، وأن تسمية الرجل بالأسد لغة لقوم، وتسمية الحيوان المفترس بالأسد لغة أخرى.... وهو رأي بيّن الأفن، وأكبر ظننا أنه لم يقل به أحد وإنما أورده بعض علماء الأصول؛ لأنه مما يتمحل له ويرد عليه ويكون مادة في الجدل؛ وذلك من أمرهم، والله أعلم.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
10 ديسمبر 2024
تعليقات (0)